الأم المصرية من الحضانة لدار المسنين

542

كانت تجلس بيننا تبكي وهي تتحدث عن زوجها الذي لا يتحمل معها مسؤولية البيت منذ ولادة ابنتهما، فدوره الوحيد الإنفاق عليهما، بينما تتحمل هي وحدها كل شيء، على الرغم أنها لا تعمل بدوام كامل وامتلاكها عملاً حرًا، لكنها رأت أن تحمل عبئًا أكبر من طاقتها كامرأة وأم، فهي لم تعد تستطيع فعل أي شيء لنفسها، ولا حتى إمكانية الذهاب للطبيب لمراجعة حالتها الصحية، وبحاجة إلى من يكون عونًا وسندًا لها في رعاية ابنتها.

مشهد صديقتي وهي تحكي قصتها كان المثال الحي على حجم المسؤولية الضخم الذي تتحمله المرأة في رعاية أطفالها وحدها، ولا يشعر بها الكثيرون، وقفز إلى ذهني مباشرة وأنا أقرأ ذلك الـpost على صفحات فيسبوك، عن “الأم التي لا ترعى أولادها وهم صغار وتقرر تركهم في الحضانة، عليها ألا تشعر بالحزن إذا قرر أبناؤها إيداعها في دار مسنين عندما تكبر في السن، لأنها تحقق ذاتها في العمل وأبناؤها أيضًا يسعون لتحقيق ذاتهم، فهذا أمر عادل”، المنشور الذي كان أشبه بعود كبريت صغير أشعل نارًا لم تنطفئ بين المؤيدين والمعارضين لما كتبته الفتاة، وكلا الفريقين يسوق الحجج على صدق وأهمية منطقه حول “الحضانة ولا رعاية الأم؟!”.

 

“أكيد مفيش كلام رعاية الأم، هو ده محتاج لسؤال؟!” الإجابة المنطقية والمنتظرة، ولكن من يطرح السؤال بهذا الشكل السطحي لا يعلم شيئًا عن معنى الأمومة، أو حتى عن ظروف البلد الحالية التي تجعل عددًا كبيرًا لا بأس به من الزوجات والأمهات مساهمات بشكل أو بآخر في مصروف المنزل، بل لا يدرك معاناة النساء في البحث عن فرص أفضل لتعليم أبنائهن والحصول على فرصة الالتحاق بمدارس جيدة في المستوى التعليمي.

 

لا أدافع عن فريق معين، ولكن رأيت بعيني وسمعت بأذني قصصًا كثيرة كانت فيها النساء تضطر بقسوة أن تذهب بأبنائها إلى الحضانة، والسبب هو ضرورة أن تعمل وتساهم في المنزل، وإلا ستنتقل أسرتها بالكامل إلى مستوى معيشي منخفض ماديًا ثم تعليميًا بالطبع، هل كانت كاتبة المنشور والمدافعين عن مبدأها القاسي يعلمون ذلك؟

أنا أعرف تلك الصديقة التي يعمل زوجها في مجال السياحة، وبعد الثورة وغيرها من الظروف السياسية انخفض دخله جدًا، واضطرت بعد ولادة ابنتها بثلاثة أشهر إلى العودة إلى العمل وترك ابنتها مع والدتها، وبعد 6 أشهر ذهبت بها إلى الحضانة.

 

وهناك تلك الصديقة التي لا يكفي مرتب زوجها مصاريف البيت، فهي لديها ثلاثة أبناء كلهم في نفس السن تقريبًا، لم يتخط عمرهم 6 سنوات، واضطرت إلى العودة إلى العمل مباشرة بعد ولادتهم، وكانت تتركهم مع والدتها ثم أختها ثم الحضانة، وأملها الوحيد أن يحظى أبناؤها الثلاثة بمستوى تعليمي مرتفع أفضل منها هي وزوجها.

هل تعرف كاتبة المنشور أن صديقتنا تلك كانت ترفض أي إجازة خوفًا على عملها؟ بل أنها بعد وفاة والدتها بأربعة أيام عادت إلى العمل رغم انكسارها وحزنها الشديد؟ّ! هل يعتقد المدافعون عن منطقها أن صديقتي لو أتيحت لها الفرصة لترعى أبناءها وهي في المنزل مع وجود حياة كريمة، وحماية من الدولة لعملها، فلا يتم فصلها منه أو طردها كانت سترفضها؟!

تمنيت أن أناقش من أطلقت هذا الحكم القاسي وجعلت الجميع يصوب سهامه تجاه المرأة العاملة، لأخبرها عن صديقتي التي اختارت ترك عملها الناجح جدًا لرعاية صغيرتها، ومع ذلك أودعت ابنتها الحضانة في سن عام وثلاثة أشهر، لمدة يومين في الأسبوع، والسبب أن الطفلة يجب أن تكون اجتماعية وترى أطفالاً تلعب معهم وتتعلم أشياء تؤهلها لدخول مدرسة جيدة، وأنها لن تتمكن من ذلك إذا ظلت بالمنزل.

 

صديقتي التي تنتمى إلى مستوى مادي واجتماعي مرتفع تمثل نسبة لا يستهان بها من أمهات اليوم، اللاتي يعلمن أن هناك اختبارات لدخول المدارس، وعلى أساسها يتحدد مستوى الطفل التعليمي للأبد، وعليه تكون الحضانة أحيانًا شيئًا إجباريًا.

 

لا أعرف منطق من أطلقت ذلك الحكم القاسي على أي أم، ولكن أدرك أن التعميم خاطئ وأن هناك نظرة ظالمة لدور الأم، فمن قال إن الأم دورها في حياة أبنائها هو أول عامين أو ثلاثة فقط؟ ومن قال إن الأم التي تذهب بابنها أو ابنتها إلى الحضانة تعود لتنام نومًا هنيئًا مريئًا؟! وإنها لا تعود من العمل سريعًا لتأخذهم من الحضانة ثم تذهب إلى البيت لتبدأ الاهتمام بشؤون منزلها، ثم الجلوس إلى طفلها والاهتمام به إلى أن ينام، لتذهب إلى السرير وهي تحلم ببضع ساعات من النوم قبل أن تبدأ دورة الإرهاق صباحًا.

نختزل دور الأم ونجلدها بسوط اللوم على ترك صغيرها، ولا نراعي صحتها أو حالتها النفسية أو الجسمانية، ولا نهتم بكم التضحيات التي تقدمها طوال عمرها لأبنائها سواء مذاكرة أو توفير رعاية صحية ونفسية، أو إنفاق وقت ومال وعمر حتى يشبوا عن الطوق ويصبحوا قادرين على “فتح بيوت” كما نقول بالعامية المصرية.

 

وفي النهاية يكون جزاؤها -من وجهة نظر البعض- هو دار مسنين! هكذا ببساطة! لأنها قررت العمل للإنفاق على أسرتها، أو حتى لإثبات ذاتها فلا تضطر كما أرى في بعض الأسر إلى “شحت” الوقت من أبنائها للجلوس معها، فتجد في عملها أنيسًا وجليسًا بعد رحيلهم وتركها وحيدة!

نختزل كل ذلك في بضع كلمات صغيرة لا تُقدِّر دور الأم حقًا ولا تعرف معناه الحقيقي! فقط يمكننا الشعور بذلك عندما نصاب بداء الأمومة!

 

 

المقالة السابقةكيف يواجه طفلك شبح التقديم في Kg1
المقالة القادمةانسف الـ”TO DO LIST”
إنجي الطوخي
كاتبة وصحفية مصرية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا