إلهامات من الربيع

675

بقلم: رفيق رائف

 

إنسان العصر الحديث صار عادةً ما يستمد إلهاماته من الآلات والماكينات من حوله، صرنا نقارن أنفسنا بتلك الآلات، ونطالبها بما تنجزه تلك الآلات؛ وإلا اعتبرنا أنفسنا عديمي القيمة والمعنى. لا نعرف كيف نرى أنفسنا، أو نُعرِّف هويتنا بدون إنجازات كبيرة وباهرة.
إذا كنت لست باهرًا؛ فأنت لا أحد .. إذا كنت لا تمتلك أكثر من غيرك؛ فأنت لا أحد .. إذا كنت لا تنجز أكثر من الآخرين؛ فأنت لا أحد .. إذا لم تكن الأفضل؛ فأنت لا أحد. والنتيجة، جميعنا نشعر بأننا لا أحد. لا أحد يشعر بالكفاية أو بالقيمة.
جميعنا نجري ونجري، نلهث ونلهث، ولا نصل أبدًا. ولكن، ربما كان حل المعضلة يبدأ من أن يترك الإنسان إلهاماته تأتي من الطبيعة ونباتاتها، بدلًا من المصانع وآلاتها.

الآلات لا تعرف المواسم، بينما النباتات لا تحيا بدون مواسم

الآلات تعمل طوال الوقت بنفس الكفاءة وبنفس الإنتاجية، لا تعرف الآلة مفاهيم مثل التعب أو الإرهاق، ولا تعرف اختلاف المواسم أيضًا. بينما تزهر النباتات في أوقات، وتذبل في أوقات أخرى. حتى في ذات الموسم، تزهر بضعة أشجار وتمتلئ بالثمار، وأشجار أخرى يبدو عليها السكون والخمول. هل رأيت أحدًا يقطع شجرة لأنها لا تنبت طوال الوقت؟ لا أعلم لماذا لا نحترم المواسم التي تمر بها أنفسنا، بل نطالبها على الدوام أن تكون على نفس الوتيرة.

من الطبيعي -يا صديقى- أن نمر بأوقات من عدم الإنجاز والإحباط وفقدان الشغف والطاقة. وليتنا نعلم أننا مثل الأشجار، مواسم السكون وعدم الإثمار بنفس أهمية مواسم الإثمار، ففيها نضرب بجذورنا إلى أعماق أبعد بداخلنا، وتكبر جذوعنا حتى تثمر أكثر، حتى تستطيع أن تتحمل أثقالًا أكثر. أنت أكبر من مجرد موسم أو فصل تمر به -يا صديقى-؛ فلتحتفل بالفصول الجيدة ولتحتضن نفسك في الفصول المؤلمة. فجميعها تزيدك غنى وثمرًا.

الآلات جميعها متماثلة، بينما تختلف النباتات كل واحدة عن الأخرى

تطالبنا مجتمعاتنا بأن نكون جميعنا على نفس معايير الجمال والنجاح والشهرة والإنجاز والقدرة، حتى العبقرية والإبداع. لكن النباتات تلهمنا بقيمة وتفرد كل واحد وواحدة منا، كل شجرة تختلف عن الأخرى في نوع ثمارها وموسم تفتحها، حتى في النوع الواحد، تختلف كل شجرة عن الأخرى في قدرتها وعدد ثمارها وطعم ثمارها؛ فأشجار المانجو لا تنتج جميعها نفس نوع المانجو، ولا تنتج جميعها نفس عدد الثمر، بل لكل واحدة ما يميزها في حد ذاتها. 

يا صديقى، خلقنا الله متفردين، وسر جمال كل واحد فينا أنه نسخة لم ولن تتكرر من نفسه. لن يعيش آخر نفس حياتك ولا نفس خبرتك مهما كان قريبًا منك. امتنَّ لمَن أنت، ولا تقارن نفسك بقوالب صنعها الناس من حولك.

الآلات لا تنمو، بينما تكبر النباتات وتنضج مع الوقت

لا توجد نبتة كاملة ومثمرة من يوم زراعتها، بل نجد مفهوم الوقت عاملًا أساسيًّا في الطبيعة. فالنبات يمر بمراحل مختلفة من النمو والتطور حتى يصل إلى ما نسميه نضوجًا. والنضوج في النباتات هو عملية مستمرة من التفتح والذبول، من الإثمار والسكون. ليتك تعامل نفسك كشجرة، لا تتسرع بقطعها إذا لم تثمر أو تحقق ما تريده منها في الحال. بل ترعاها وتجرب طرقًا مختلفة لريّها، وربما معالجة التربة التي تنمو فيها، وربما تقضى وقتًا معها حتى تعرف ما هي الظروف المُثلى التي تثمر فيها، وما هى الظروف أو البيئة التي تجعلها تذبل وتنكمش.

نحتاج لوقت حتى ننضج وننمو، فلا يحدث النمو في يوم وليلة بعد أن نقرأ كتابًا أو نأخذ دروسًا معينة، بل تحتاج عضلاتنا أن تتمرن، وتحتاج عقولنا أن تهضم المعلومة وتتشكل بها. تمر أيام كثيرة على النباتات بدون أي نمو ملحوظ، لا تستطيع قياس نموها كل يوم عمَّا قبله. وهكذا الإنسان، يحتاج لأيام طويلة يحفر بداخله نموًا غير مرئي. فهكذا يحدث التغيير، خطوات صغيرة لا قفزة واحدة كبيرة. فلا تستعجل نضوجك -يا صديقى-؛ النضوج الحقيقي هو ما يأخذ وقتًا ومجهودًا، بينما النضوج المزيف يتصنعه الإنسان في يوم وليلة.

الموت جزء من حياة النباتات، على خلاف الآلات بالطبع

البذرة يجب أن تُدفن أولًا حتى تصبح شجرة، وحتى الشجرة يتساقط منها الكثير من الأوراق، وتتبدل جذوعها، بل وربما تتلف بعض الثمار بسبب عوامل البيئة. هذه هي الطبيعة في جمالها، تعلمنا أن نقبل الخسارة كجزء من عملية النمو. نقبل أوقات الفشل، التي حاولنا فيها ولم ننجح. نقبل علاقاتنا التي تأذينا  منها، فربما لم نصبح ما نحن عليه بدون تلك العلاقات. نقبل الجروح التي تألمت بها قلوبنا، فهي علامة على قلوب ممتلئة بالحياة وليست متحجرة. نقبل أحلامنا التي تكسرت بسبب عواصف الواقع المرير، بسبب تلك العواصف صرنا أكثر مرونة في تعاملنا مع محدوديَّتنا، صرنا أيضًا أكثر واقعيةً وأقل استغراقًا في أحلام لا تمتُّ للواقع بصلة.

في النهاية، أعتقد أكثر ما يلهمني في الربيع؛ هو كيف ترقص النباتات والطبيعة. وكيف نبتهج نحن بمجرد رؤيتها بدون أن نضع عليها كل تلك الأحمال والتوقعات التي نضعها على أنفسنا. الطبيعة ترقص على الدوام، وكذلك الإنسان حتى بدون أن يدري. شئت أم أبيت ستمرُّ رُوحك بمواسم مختلفة، فلتقبل مواسمك وتتعلم كيف تغير من شكل رقصتك في كل موسم؛ وإلا صارت رحلتك في الحياة أكثر صعوبة وأكثر شقاءًا. اختلاف المواسم يجعل أعماقك أغنى، امتنَّ له.

 

المراجعة اللغوية: عبد المنعم أديب.

 

المقالة السابقةالموت جزء من الحياة
المقالة القادمةالراحة والذنب

1 تعليق

  1. Somebody necessarily assist to make severely posts I might state. That is the first time I frequented your website page and to this point? I amazed with the analysis you made to create this particular submit incredible. Excellent job!

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا