بقلم: روكسان رأفت
مِنضدةٌ صغيرةٌ مُستديرةٌ تكفي شخصَيْنِ، تقع في زاوية غرفة متوسطة المساحة هادئة الأجواء. ألوان الغرفة محايدة ليست باهتة ولا صاخبة. أزور هذا المكان من وقت لآخر بصورة دورية، أو على حسب الاحتياج.
أسمِّي هذا المكان “سنتر الدروس الخصوصية” الخاص بي! .. فقد اكتشفت منذ فترة بعيدة أنني أحتاج لبعض فصول التقوية. فالكبار أيضًا يحتاجون للدروس الخصوصية.
رُبَّما يَجدُرُ بالصغار استمرارية وتكرار التعلم، رُبَّما يقل ما نتعلمه بتقدُّم أعمارنا، ورُبَّما تمتلئ مراكز الدروس الخصوصية بالشباب والأطفال؛ لكنْ للكبار أيضًا احتياج للتعليم.
لم يكن هذا المكان خاصًّا بي بمفردي؛ لكنه مكان لكل من يريد التعلم بطريقة فردية تُسمَّى “one to one learning”. هناك تتبدَّلُ الأماكن، ويأتي ويذهب العديد من الأشخاص، فأحيانًا يكون المعلم هو نفسه التلميذ في رواية أخرى! في هذا المكان يتبادل الأشخاص الخبرات، ربما يكونانِ صديقَيْنِ أو متخصص وطالب للمساعدة .. هنا يأتي الأشخاص برغبتهم، وليس لأنهم مجبرون!
تعليم الكبار
في الصِّغر نتعلم بعض الأشياء دَفعةً واحدةً، بعضها نتعلمه بطريقة النمو الطبيعية، وبالتجربة والخطأ، مثل المشي وتكوين الجُمل بمفردنا، وتناول الطعام دون مساعدة. والبعض الآخر نتعلمه بالإجبار -أو بمعنى أدق- ضمن عملية تعليميَّة مستمرة، أو حتى طبقًا لقوانين عائلية ومجتمعية محددة.
وهكذا تسير الحياة، فنجد أن هناك دروسًا نتعلمها جميعًا، حتى لو كان هناك اختلاف طفيف بيننا كبشر. إلى أنْ تُصادفنا مواقف ومَطبَّات تدفعنا إلى أخذ فصول تقوية ودروس خصوصية.
مطب صناعي
بعض من هذه المطبات التي تدفعنا لأخذ فصول تقوية؛ هي الأمومة والأُبوَّة. فمَن مِنَّا يستطيع أن يعلم ابنه درسًا هو نفسه لم ينجح فيه؟
ليست التربية مجرد “افعل ولا تفعل”؛ لكنها رحلة نعلم فيها أطفالنا كيفية الحياة. أتذكر حينما اكتشفت أنني لا أجيد بعض مواد الحياة، واضطرتني الأمومة إلى البحث عن معلم خاص بي.
كان هذا المعلم أحيانًا شخصًا متخصصًا، ومرَّاتٍ صديقةً حكيمةً أثق برأيها، ومرَّاتٍ أخرى كتابًا مُتعمقًا. الجميل في هذا الأمر أن ما اضطررت لتعلمه لأجل أطفالي صَنَعَ فرقًا في حياتي الشخصية. فليست هناك دروس ضائعة، بل أحيانًا يكون تأثير الدروس مُضاعَفًا!
ليست الأمومة فقط هي ما جعلتني أتعلم وأنا بالغة، بل أيضًا دُرُوب العلاقات بدايةً من علاقتي بنفسي، إلى علاقتي بالأشياء، مثل المال والطعام والعمل.
فليس غريبًا أن تكبر، وأنت لا تعلم كيف تدير مالك أو مشاعرك أو وقتك. فهذه دروس لا نجيدها جميعًا كنتيجة حتمية لتقدُّم أعمارنا؛ بل هي دروس اختياريَّة، بعضنا تعلَّمَها، وبعضنا احتاج فيها فصولًا للتقوية.
المهم هو ألا تكبر أو تتكبر على التعلم، بل تظل منفتحًا شابًا يافعًا في ذهنك ونظرتك للأمور.
علامات النمو
في موادنا الدراسية كانت هناك اختبارات شهرية أو أسبوعية، تمتحن تطورنا وقدرتنا على الاستيعاب.
رُبَّما لا يكون الأمر كذلك في دروس حياتنا اليومية ونحن كبار، فرُبَّما يصعب علينا في بعض المرَّات تحديد ما إذا كُنَّا اجتزنا هذا الامتحان أمْ أنَّ درجاتنا تدفعنا لأخذ “درس خصوصي”.
وأنا أرى أن هذه من أهم مواد حياتنا؛ فإنْ كنت لا أستطيع أن أُقيِّم نفسي تقييمًا موضوعيًّا، فكيف لي أن أُقدِم على حضور فصول للتقوية؟
من ضمن المواد التي أخذت فيها درسًا وأنا بالغة، هي مادة “القُدرة على التقييم الموضوعي للذات”. فلمْ أكنْ ماهرةً كفايةً في هذه المادة، وتعلَّمتُ خلال فصول تقويتي كيف ألاحظ علامات نموي، كيف ألاحظ جملة “كنت وأصبحت” حتى أستطيع أن أحدد ما أحتاج إلى حذفه أو إضافته لفصول حياتي المختلفة.
أحرزت تقدُّمًا في هذه المادة يجعلني آخذ هدنةً من بعض فصول التقوية. فقد صرتُ أكثرَ رحمةً بنفسي، وأكثرَ قبولًا لأخطائي. وهو ما جعلني أكثرَ كفاءةً في مشوار أمومتي.
رُبَّما تختلف الجوانب التي نحتاج فيها للتعلم ونحن كبار. فما أحتاج أنا لفصول تقوية فيه، قد تكون أنت هو المعلم له. وما قد أجيده أنا قد تكون أنت من يحتاج لخبرتي فيه.
وهذا هو الجزء الإنساني المهم في الدروس الخصوصية للكبار، والمختلف عن فكرة المدرس والتلميذ في المدارس والجامعات. لا أحد يمتلك كل العلم، ولا أحد أفضل من الآخر؛ بل جميعنا تلاميذ في هذه الحياة بنسب ودرجات متفاوتة.
فلا تكُنْ مُتكبرًا بحيث تُضيِّع فرصك للتعلم، ولا تكُنْ خجولًا أو خائفًا من طلب المساعدة. فجميعنا نحتاج في وقت ما، وجميعنا نمر بمواقف غير متعلمين كل دروسها وطريقة حلها. وجميعنا نوضع في مواقف نكتشف من خلالها أننا تلاميذ.
فلو كنت هكذا فهنيئًا لك نعمة التواضع والانفتاح على التعلم، وإن لم تكُنْ هكذا فرُبَّما تحتاج إلى درس خصوصي في هذا الأمر.
المراجعة اللغوية: عبد المنعم أديب.