أولى جامعة – بكالوريوس رايح جاي

434

كعادة كل الأشياء بحياتنا -إلا قليلاً- نجلس أغلب الوقت نحسب حسابًا ما ليس بيدنا، نتطلع إليه، ننتظره، نتخيل شكل حياتنا وتفاصيلها حين يأتي، مُتناسين بتلك الأثناء أن نعيش حاضرنا ونستمتع به.

 

ينطبق ذلك على مُعظم الأشياء تقريبًا، وإن كان يتجلى واضحًا بالتعليم، فطالب الابتدائي ينتظر الانتقال للمرحلة الإعدادية على أحرّ من الجمر، بينما ينظر طالب الإعدادية بشغف وحماس لعالم الثانوي، في حين أن طلبة الثانوي يعدُّون الأيام التي تبقَّت على التحاقهم بالجامعة.

 

ذلك العالم الساحر، حيث التخلي أخيرًا عن سلسلة من التصرفات التي يراها المُراهقون طفولية، كارتداء يونيفورم مُوَحَّد، ركوب باص المدرسة، وأخذ الساندويتشات التي تُصر عليها أمهاتهم. بدلاً عن ذلك سيصبح لديهم القُدرة على الانضمام لعالم المُدرَّجات، كشاكيل المُحاضرات، والجلوس بالكافيتريات وتبعاته.

 

لذا لا غرابة في أن يتعامل كل فرد في تلك المنظومة مع الثانوية العامة على أساس كَونها عُنق زُجاجة بالفِعل، ليس فقط لصعوبة موادها الدراسية والرُعب الذي يُحيط بامتحاناتها والنتيجة التي قد تنقل صاحبها من سابع أرض لسابع سما والعكس، ولكن لأنها أيضًا كما يليق بكبسولة فضائية تُسافر بأبطالها وذويهم من مرحلة إلى أخرى، فاتحةً كل الأبواب أمام المُستقبل ومشاريع الأحلام البِكر، مانحة إياهم القُدرة على وضع القَدَم الأولى بمُقتبل الحياة خارج عباءة الطفولة.

 

الطفولة التي سيحنّون إليها فيما بعد، حين تعتصرهم مسؤوليات الحياة وتُكبِّلهم أعباؤها، فيتمنون لو عادت راحة البال وانقضاء الأوقات في اللا شيء كالسابق.

 

“الأوّلة.. أرزاق مفيش حيلة ولا سكّة غير المكتوب”.

السنة الأولى بالجامعة لها فرحة تختلف عن الفرحة بأي مرحلة أو سنة جامعية أخرى، وعلى عكس ما قد يتصور البعض فإن أبطالها ليسوا فقط الطلبة أصحاب الشأن، ولكن كذلك ذويهم والمُقربين منهم.

فالأهل أخيرًا يتنفسون الصعداء مُطمئنين على أولادهم بأنهم قد وضعوا أقدامهم على الدرجة الأولى الحقيقية من سُلم الحياة، خصوصًا إن جاءت دراستهم لشيء له مُستقبل يضمن لهم إيجاد فُرصة عمل بعد التخَرُّج. على صعيد آخر تفرح الأمهات ببناتها لاعتقادهن أنهن أصبحن مشاريع عرايس، وأن اليوم الذي يحلمن لهُن به قَرُب.

 

أما الآباء فينظرون لأولادهم الذكور على أنهم صاروا رجالاً؛ قريبًا جدًا سيتم الاستناد إليهم وعليهم، ليس بالضرورة ماديًا بل معنويًا، إذ مع تقدم العُمر يتحوَّل الأهل بشكل أو بآخر لأبناء لدى أبنائهم حتى ولو لم يعترف الطرفان بذلك.

 

“والتانية.. أسماء عيال بتحب ع الدكّة وراسمة قلوب”.

أما الطلبة، فانتقالهم من الثانوي لعالم الجامعة له هالة وفَرحة فريدة من نوعها، فالجامعة أول ثغرة بأبواب السجن الذي يُحيط به الأهل أولادهم، وهو ما يتجلى بوضوح في مُجتمعاتنا الشرقية التي ترفض الاعتراف بأهلية أولادها وقُدرتهم على الاعتماد على أنفسهم -مهما كبروا- إلا بصعوبة وفي أضيق الحدود.

 

لذا يسعد الأبناء بخروجهم المبدئي والمُنتَظر من الشرنقة، وبداية رحلة التحول لفراشات، فمن جهة ستتسع المساحات المُتاحة لهم للاعتماد على أنفسهم وخَوض الحياة. ومن جهة أخرى سيبدأ كل منهم في السعي خلف حلمه إذا كان سعيد حظ بما يكفي للالتحاق بالكلية التي تمناها يومًا، أو كان ذكيًا بما يكفي ليُدرك في سنه الصغيرة أن الشغف هو عِماد الحياة الحقيقية، وأن دراسة ما نُحب ونبرع فيه أبرَك (أكثر بركة) ألف مرة عن الالتحاق كالمجذوبين بقطيع كُليات القمة التي لا تُشبه أصحابها أو أحلامهم بالضرورة.

 

وبشكل عام فإن عالم الجامعة واسع ومُتعدد التفاصيل إذ لا يقتصر على دراسة ما نُحب والاستعداد لممارسة الحياة العملية، أو اكتساب صداقات جديدة على نطاق أوسع جغرافيًا، أو حتى ارتداء ما يُشبهنا والسماح بوضع المكياج (في حال الفتيات)، بل هُناك كذلك مُعاودة اكتشاف النَفس لنتعرف بوضوح على ملامحنا، رغباتنا، ميولنا، ما نُحب، وما نَكره.

 

بل وقد يمُر البعض كذلك بتجاربه العاطفية الأولى بتلك المرحلة، لذا فالسنة الأولى جامعيًا تُعد بمثابة باب يُفتح على مصراعيه على كل الاحتمالات عملية كانت أو عاطفية، مادية أو معنوية لتصبح تلك المرحلة من أهم أحجار الأساس التي سيختلف مُستقبلنا وفقًا لما نختاره فيها وكيف نُقرر أن نعيشها.

 

“والتالتة.. بشتاق لطعم الفرح والضحكة يا شيخ أيوب”.

تمر السنوات بحلوها ومُرها، سهولتها وصعوباتها بسرعة ليجد الطلبة أنفسهم بآخر سنة في الجامعة، فإذا وضعتَهم حينها أمام صورتهم الأولى لأول يوم لهم فيها بكَمّ الأحلام التى جاؤوا مُحمّلين بها، الثوابت التي ظنوا أنهم لن يُغيّروها أبدًا، العلاقات التي قالوا عنها إنها ستدوم للأبد، قلوبهم بصفحاتها البيضاء دون وساخات، تصوراتهم عن الطريق الذي سيسلكونه نحو مُستقبلهم.. على الأغلب كل ذلك سيكون قد تغير، وتختلف درجة التغيير باختلاف ما مَر به كل طالب منهم.

فالحياة لا تسير على وتيرة واحدة، والاعتقاد بأن الصورة التي نُريد أن تسير حياتنا وفقها ستظل كما هي، وأننا المُتحكمون الوحيدون بها، ما هو إلا محض بلاهة. وعلى ذلك ليس بالضرورة أن يكون التغيير جذريًا، إلا أن الصورة لن تظل كسابق عهدها، إذ سيصبح بإمكانك على الأقل اكتشاف سبع فروقات بين شخصيتك، أحلامك، أولوياتك أول يوم بالجامعة ونفس الأشياء في آخر يوم.

 

“أنا ملّيت..هدوق إمتي؟

قاللي قريب

متزعلشي”.

 

عمومًا سواء كان انطباعك بآخر عام لك في الكلية بأنك:

* ستفتقد أجمل أيام حياتك.

* أخيرًا ستأخذ إفراجًا من الدراسة التي لم تكن مُمتعة كما توقعت.

* سعيد بالتخرُج لبداية مشوارك العملي أو حتى الارتباط الرسمي بمن تُحب.

* حزين لأن التخرُّج سيعني شروعك في تحمل مسؤولية من حولك.

 

في جميع الأحوال اعلم أن انطباعك هذا قد لا يكون حقيقيًا أو يتغير بمرور الوقت، وأن الأيام في الواقع كُلها تحمل الخير والشر بدرجات مُتقاربة للغاية، لذا فما من حقائق مُطلقة يُمكن الاستناد إليها.كل ما يُمكنك فعله -سواء كُنت طالبًا بأي مرحلة تعليمية أو كنت قد أنهيت تعليمك بالفِعل- أن تتعلم أن تعيش اليوم، دون أن تنتظر الغَد المجهول الذي قد يتوقف عن القدوم في أي لحظة.

 

** ما بين علامات التنصيص من قصيدة للشاعر مصطفى إبراهيم.

المقالة السابقةتأخرتُ على صديقتي.. فماتت
المقالة القادمةأنا مت موتات أحسن من دي بكتيييييييييييير
ياسمين عادل
امرأة ثلاثينية متقلبة المزاج، أعشق الرقص على السطور كتابةً، أُحب الفن بمختلف أنواعه وأعيش عليه. والآن كبرت وصار عليّ أن ألعب في الحياة عشرات الأدوار طوال الوقت، لأستيقظ كل صباح أُعافر حتى أستطيع أن أُحاكي بهلوانات السيرك فأرمي الكُرات المُلونة بالهواء ثم ألتقطها كلها في آنٍ واحد.

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا