بقلم: رفيق رائف
أرى نفسي محظوظًا بعلاقاتي؛ إذ أحظى بأصدقاء عدّة أحبُّهم وأقدِّرُهم. في كل محطة من رحلتي في الحياة، كانت علاقاتي مصدر تأثير كبير علىَّ، تساعد في تشكيل هويتي وخطواتي. لم تكن على الدوام علاقات سهلة أو مستمرة تلك العلاقات؛ لكنْ كان ما يميزها هو شعوري بأني حقًا في البيت، في بيتي.
تخدعنا وسائل التواصل على الدوام مُصوِّرة لنا فتات العلاقات. نظن بأننا إذا ما صرنا مع أشخاصٍ، فترات طويلة؛ فهذا حتمًا يعني بأننا أصدقاء مقربون، حتى إنْ كانت معظم أحاديثنا معهم سطحيةً ولا تُعبِّر عنا فعلًا. أتعجَّب من صداقات لا يعرف فيها الأطراف عن بعضهم إلا القشور. لا يعرفون عن ماذا يصارع الآخر في حياته، لا يعرفون عن جروحه، لا يعرفون عن مُعاناته في عمله أو في علاقاته؛ لا يعرفون عن أحلامه وإحباطاته منها، لا يعرفون عن احتياجاته الصارخة بداخله. يعيش كل واحد في ظلامه، ولا يدعو الآخر إلى داخله. يرفض أن يُعرِّي أحد ضعفه، ويظهر على الدوام بمظهر القوي والعارف والواثق؛ ثم يتعجب هؤلاء لما لا يكشف الآخرون عن ضعفهم معه.
بالطبع، لا أقول إن كل العلاقات يجب أن تكون عميقة، وفيها مشاركات ثقيلة، لكني أحاول طرح تعريفات مختلفة للعلاقات، ربما نستطيع اختبارها، حتى لو بقدر صغير.
يحتاج الإنسان لعلاقات يشعر فيها بالأمان الكافي حتى يخلع أقنعته. حتى يشعر بأنه مرئي ومفهوم بحقٍّ، دون أن تُلصق عليه ملصقات تلخصه في كلمة أو تشخيص؛ يحتاج بيتًا.
“أحتاج إليك كي أعبر،
لست ضريرًا،
ولكننى مستوحش، وهذا الدرب مُعتم”.
(شهاب الدين الهوارى، عن قرب)
لكن، ماذا يعنى أن تكون علاقة ما، بيتك؟
في البيت تكون كما أنت، لا يهم شكل ملابسك، فقط يهم كم هي مريحة بالنسبة لك.
وكذلك في تلك العلاقات الآمنة، تجد نفسك تتحدث كما تريد، دون أن تحمل همَّ كيف يبدو حديثك أو كيف تبدو صورتك عند الآخر. لا تحتاج أن تلعب ألاعيب نفسية أو تخطو خطوات حذرة وكأنك تمشي على الحبل، بل تأخذ خطواتك بسلاسة وبحُرية. لا تحتاج أن تكون على شكل أو هيئة خاصة حتى تستقبل الحب، فقط تحتاج أن تكون نفسك. تشعر أنك مُرحَّب بك وأنك مقبول؛ لا لأنك شيء سوى نفسك. تستطيع أن تتيه، دون أن يلصق عليك لقب “تائه”. تستطيع أن تكتئب، أن تضعف، أن تحتاج، وأن تتألم دون أن يلصق بك ملصق يلخصك فيما تمر به الآن. تستطيع أيضًا أن ترقص بعفوية، أن تضحك، أن تمتن لنفسك، وأن تشارك إنجازاتك وخطواتك في الحياة دون أن تُلصق بك ألقاب التفاهة أو الغرور. تخطئ في حق الآخر ويخطئ في حقك بالطبع لأنكما لستما كاملين، لكنْ يوجد خط رجعة من الأمان والعتاب ترجعان له. يصاحب كل منكما الآخر في خطوات رحلته بالرغم من اختلافها عن خطوات رحلته هو.
مسؤوليتك عن بيتك، هي ما تجعله أيضًا مريحًا.
كما تحتاج البيوت إلى صيانة، تحتاج العلاقات أيضًا. صيانة العلاقات تختلف من علاقة لأخرى، بِناءًا على شكل العلاقة وقربها ومكانتها بالنسبة لكل واحد. ربما تحتوي تلك الصيانة على مواجهات صعبة، أو تعبير دافئ عن مشاعرك تجاه الآخر (التعبير الدافئ لا يكون فقط في العلاقات العاطفية، بل تعلمت أن أعبر عن امتناني لأصدقائي، تعلمت أن أقول أحبك بطرق مختلفة، تعلمت أن أقول كم أقدِّر وجود الشخص الآخر وصحبته بطرق مختلفة).
لا تُبنى البيوت الدافئة من فراغ، بل تحتاج إلى مجهود، وربما بعض المخاطرة في الكشف عن أعماقك. حتى تختبر قبولًا حقيقًا من الآخر تحتاج أن تخاطر بتعرية ضعف أو خزي بداخلك؛ حتى يستطيع الآخر احتضانه وتهدئته. تحتاج أيضًا أن تفعل المِثل إذا ما كشف لك الآخرُ عن دواخله، ألَّا تُلصق عليه أحكامك ولا خبراتك، أن تراه كما هو بتعقيداته وبرحلته في الحياة لا رحلتك أنت.
ربما تحتاج أن تتخلى عن حماية نفسك من الآخر -حتى لو قليلًا-، وأن تأتمنه على غرف بداخل قلبك ربما لم يدخلها الكثير.
وربما كانت الصيانة في أن تدع عينيك ترى أخطاءك في العلاقة، وأن تتحمل مسؤوليتها بدلًا من أن ترمي كل شيء على الآخر.
“صديقك هو حاجة لك قضيت،
وهو حقلك تلقي فيه البذور في حب، وتجني منه الثمار في شكر. وهو مائدة طعامك ومدفأتك؛
لأنك تسعى إليه بجوعك، وتنشد عنده الطمأنينة”.
(جبران خليل جبران، النبي)
بيتك يمر بمواسم
طبيعي أن يمر بيتك بمواسم مختلفة من الشتاء والصيف. ربما يظهر فيه حشرات في الصيف، أو يكون برده قارسًا في الشتاء. تذكَّرْ، بيتك ليس منيعًا أمام ظروف الحياة، وهكذا هي علاقاتك. من الطبيعي أن تمر علاقاتك بأوقات تشعر فيها بدفء وحميمية، وأوقات أخرى تشعر بالجفاف والبرودة، أوقات تشعر فيها بتواصل هادئ، وأخرى تختبر فيها توترات وضغوطات.
مثل بيتك، لا يجب أن تكون علاقاتك كاملة، فقط يكفي أن تكون مريحة ومناسبة بالنسبة لك ولاحتياجاتك.
أخيرًا، تذكر أن الإنسان يستطيع بناء بيوت طوال عمره؛ فلا تغرق فيما فقدته من بيوت في الماضي، بل لتأخذْ خطواتك في بناء ما تستطيع من بيوت حولك. البيوت مسؤولية مَن يعيشون داخلها، وهكذا العلاقات، لا يمكن أن يحمل شخص واحد مسؤولية دفئها أو برودتها.
“في الطريق إلى نفسك ستلتقي الآخر الذي يشبهك”.
(شهاب الدين الهوارى، عن قرب)
المراجعة اللغوية: عبد المنعم أديب