لتصنع بيتك بداخلك

1188

بقلم: رفيق رائف

 

“ما هو البيت؟ التعريف المفضل لديَّ؛ هو ذلك المكان الذي تشعر فيه بالأمان. أعتقد أنه ذلك المكان الذي لا تخشى فيه من هجوم الأعداء؛ إنه ذلك المكان الذي فيه يمكننا فهم بعضنا البعض. لا يجب أن يكون الأشخاص بداخله كاملين، فقط نحتاجهم أن يكونوا أمناء معنا وعلينا، أن يكونوا محبين وداعمين لنا، وأن يسمحوا لنا أن نختبر إنسانيتنا بضعفها وعجزها وقلة حيلتها”. جلاديز هانت.

 

نظل جميعًا نبحث عن بيوت لنا؛ سواء في الأماكن أو في الأشخاص أو حتى في الخبرات (نعم، فأحيانًا يعتبر الإنسان خبرات أو مواقف معينة بيوتًا له يرجع لها، ويشعر فيها بالأمان). جعلتني رحلتي في الحياة أرى كيف أن من أهم البيوت التي أحتاجها هو ذلك الذي بداخلي. فإذا لم أبنِ ذلك البيت بداخلي؛ فلا أعتقد أنني أستطيع الاستدفاء بأي بيت أجده خارجي. في أوقات كثيرة تواجدت في أماكن رائعة وهادئة، بها بحر أو خضرة أو جبال؛ لكن بسبب اضطراب أعماقي لم أستطع أن أستكين فيها أو أهدأ. كذلك الأشخاص الذين أعتبرهم بيوتًا لي بحضورهم وتواجدهم معي، بالطبع يُحدثون فارقًا عندما أجالسهم، لكنْ في النهاية تبقى أعماقي مضطربة ومشوشة إذا لم أكن مستقرًا في ذلك المنزل الداخلي. ولكن ماذا يعني أن تمتلك بيتك بداخلك؟ أعتقد أن المقولة في الأعلى لا تزال ملهمة وكاشفة.

 

ذلك المكان الذي لا تخشى فيه من هجوم الأعداء

 

تعوَّدنا أن نكون قُساةً على أنفسنا، تعوَّدنا جَلدَ ذواتنا على أي شيء. دائمًا نتصيَّد لأنفسنا الأخطاء، ودائمًا نستسهل أن نرى كيف أن ما فعلناه لم يكن صحيحًا، أو حتى لو كان صحيحًا، لكنه لم يكن كافيًا؛ وان كان كافيًا لمَن حولنا فهو غير مُرضٍ لنا، وإن كان مُرضيًا فهناك غيره كان يجب فعله. لا نترك لأنفسنا أي فرصة كي تكون متعثرة، غير كاملة أو تائهة. لذلك أصبحنا نخاف التواصل العميق مع أنفسنا، ويبدو ذلك منطقيًّا، فمَن يقدر أن يحافظ على تواصل مع كيان يُعنِّفه، ويلومه، ويُبكِّته طوال الوقت. بالطبع لا أقول ألَّا نفكر في تصحيح أخطائنا أو التفكير فيها، لكنْ ننظر لأنفسنا برفق حتى ونحن غير كاملين، ولا نتسرع في إلصاق الأحكام بأنفسنا بناءً على بضع خبرات “فاشل، ساذجة، كسول، غبية”.

 

يمكننا فيه أن نفهم بعضنا البعض

 

كما أن التواصل هو جوهر علاقتنا بالآخرين، فهو أيضًا ما يُشكِّل علاقتنا بأنفسنا. نحتاج أن نسمع أفكارنا ومشاعرنا دون أن نستنكرها، دون أن نفكر “لا يجب أن أشعر بذلك الشعور” ، “كيف أفكر هكذا، هل أنا مجنون؟”. الأفكار والمشاعر -مهما بدت مرارتُها وسخافتها- تُعبِّر عن أجزاء بداخلنا، تعبر عن احتياجاتنا للأمان وللقُرب وللحب؛ أو تعبر عن خوفنا من الهَجر والترك أو من الفشل أو من الألم. “أن تصنع بيتك بداخلك” هو أن تسمح لتلك المشاعر والأفكار بالمرور على عقلك في سلام، وأن تسمعها كما تسمع بكاء طفل صغير يُعبِّر عن مشاعره. إذا ظللت تُعنف نفسك على أفكارك ومشاعرك فإنها ستختبئ منك، ستظل موجودة ومُحرِّكة لكيانك ولأفعالك، لكنها مدفونة في غرفة مظلمة بداخلك.

تذكَّرْ أنَّ المنزل “لا يجب أن يكون الأشخاصُ بداخله كاملين، فقط نحتاجهم أن يكونوا أمناء معنا وعلينا، أن يكونوا محبين وداعمين لنا، وأن يسمحوا لنا أن نختبر إنسانيتنا بضعفها وعجزها وقلة حيلتها”

 

خطوة عملية

 

في حوار مع “محمد صلاح” (لاعب الكرة المشهور)، قال إنه يبدأ يومه عادةً بتمرين تأمل، جالسًا على الأرض، وإن ذلك يساعده كثيرًا في صفاء ذهنه وفي التعامل مع الضغوط في الملعب وخارجه. شخصيًّا، تمارين اليقظة والتأمل ساعدتنى كثيرًا في أنْ أبني بيتًا بداخلي، أستطيع اللجوء إليه عندما أفقد توازني في وسط معارك الحياة. وكما عبَّرَ الكاتب “دانيال سيجيل”  في كتابه Mindsight “تمارين اليقظة هي أقصر طريق تجاه أن يكون الإنسان صديق نفسه المقرّب (His own best friend)”. أما الكاتبة “مارشا لوكاس” في كتابها Rewire your brain for love، أشارت إلى أن المُواظبة على تلك التمارين ساعد الكثيرين في أن يشعروا بالسلام في أجسادهم، بدلًا من الشعور الدائم بالتوتر والقلق (to be calm in your own bones).

خلال ممارستي لتمارين اليقظة والتأمل أدركت كيف تساعدني في أن أكون أكثر رحمة بنفسي؛ فجوهرُها هو أن أصبر على عقلي بينما يتشتَّت بعيدًا. وبرفق أرجعه إلى التركيز، ثم يتشتَّت مجددًا. فلا أتذمر منه، بل أرجعه ثانيةً إلى التركيز في اللحظة الحاضرة دون أن أؤنِّب نفسي أو ألصق بنفسي أنني فاشل، أو أن التمرين ليس لأمثالي. فليس الهدف من التمرين أن ينجح الإنسان في أن يظل مُركِّزًا فيه طوال الوقت، لكن الهدف الأسمى هو أن يترفق الإنسان بعقله، وهو يردُّه في كل مرة يتشتت. وهكذا يجد الطريق إلى داخل نفسه والتواصل معها بعيدًا عن الضوضاء. برغم بساطتها، تحمل تلك التمارين في عمقها تدريبًا لاحتمال الضغط الناشئ من الشعور بالملل في اللحظة الحاضرة. إذا استطعت أن تعلم عقلك أن يتحمل بضعة دقائق من المشاعر السلبية بالملل والاحتياج للهروب؛ شيئًا فشيئًا سيتعلم كيف يتعامل مع الضغوط والمشاعر السلبية عمومًا، فيسمح لنفسه  بملاحظتها بدلًا من الهرب منها.

لا توجد مساحة في هذا المقال لشرح تفصيليّ لتلك التمارين. يمكنك أن تبحث على الإنترنت عن تمارين يقظة Mindfulness، أو تأمل حتى تسنح لنا الفرصة في مقالات أخرى لشرح تلك التمارين بالتفصيل.

أخيرًا، تذكَّرْ، بناء بيت عادةً يحتاج لكثير من الوقت والمجهود والمحاولات..
لا تتعجل، بل ابنِ قطعةً قطعةً..

 

“البيت هو المكان الذي تكون متأكدًا من أنه سيضمُّك إليه حتمًا؛ إذا ما احتجت إليه”. روبرت فروست.

 

المراجعة اللغوية: عبد المنعم أديب

المقالة السابقةأن تكون علاقة ما، بيتك
المقالة القادمةنوستالجيا ولا تروما

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا