أمهات في ليالي الحظر: لا يوجد متسع للضحك ولا البكاء

1398

الآن، بينما أكتب تلك الكلمات، أتكوم في ركن مظلم من غرفتي، على الأرض، بعد يوم مضن من أيام الحظر ، في مساحة ضيقة غير مرئية بين السرير والجدار، أتكور داخل نفسي شاعرة برثاء مرير.. أنا لست بخير.

الأمر ليس مضحكًا!

منذ بداية الحظر، لا.. من قبل الحظر بشهور طويلة، وأنا أعيش الحظر كاملاً في المنزل، الفارق أنني كنت أحظى ببعض من الوقت حين يذهب صغيري إلى المدرسة ويمضي زوجي إلى عمله. في تلك الأيام السعيدة، كنت أنتظر نوم ابنتي، بعد معاناة، فأتكور في ركني المفضل لأستعيد بعضًا من نفسي، أما الآن فالعرض مستمر 24 ساعة، أنا وكل النساء في المنازل نعمل بلا فواصل أو أوقات للراحة.

كان الأمر في البداية مثيرًا للسخرية، مع عدد من “الكوميكس” الضاحكة من حال الأمهات، والمطالبة للسلطات بإعادة المدارس والحضانات، لكن في الواقع الأمر ليس مضحكًا بأي شكل من الأشكال.. الأمر مفزع ومثير للضيق والحنق. بصراحة شديدة بت أصل إلى أوقات أعجز فيها عن التنفس، ضيق شديد في صدري ونَفَسي، أرى معه العالم وقد تحول إلى أضيق من ثقب إبرة.

أم قادمة من الإعلانات

المهام السخيفة تتحول إلى حلم مع الوقت، فأتمنى أن أنهي تنظيف السجاد بسلام، أو مسح المطبخ دون وصلة صراخ هيسترية على بابه، الشلل يسيطر على كل شيء، تنظيف المنزل أضحى ضربًا من الجنون في وجود أطفال، تفسد ما تصلحه أي يد لحظة بلحظة، إعداد الطعام، تغيير الحفاض، غسيل، نشر، جمع، تطبيق، والخطوة الأكثر سخافة إعادة الملابس إلى مواضعها في الدواليب، هذه كلها بديهيات يجب أن تتم بالتوازي مع أدوار عليَّ أن ألعبها من واقع شعوري بالذنب تجاههم.

عليَّ أن أتحول إلى مدرسة لابني الذي كنت أشكو قبل شهور من عدم عثوري بعد على طريقة تناسبه كي يتعلم، الآن عليَّ أن أخترعها، وأن أتمالك أعصابي، عليَّ أن أتحول أيضًا إلى أم من تلك التي تظهر بالإعلانات وهي تداعب طفلتها الصغيرة، طفلتي تستحق أمًا قادمة بضحكة الإعلانات الشهيرة لتداعبها. هي لا تستحق ذلك الوجه العابس المرهق، ولا ذلك الصوت الذي تحشرج لفرط الصراخ، هي في الواقع تحبو لأول مرة في حياتها ويسيل اللعاب منها مع آلام مبرحة بسبب الأسنان، بينما أنا لا أوليها اهتمامًا يُذكَر، حيث تتنازعني المهام فلا تبقي مني ولا تذر.

وحدي في الشارع وقت الحظر

قبل قليل، كنت وحدي في الشارع وقت الحظر أبحث عن صيدلية بها طبيبة، لتبدأ من بعدها رحلة البحث هل تقبل إعطائي حقنة المضاد الحيوي؟ يا للعبث! ثلاثون عامًا من عمري تمتعت خلالها بما يكفي من الصحة، بحيث لم أتعرض قط لموقف يضطر فيه الطبيب لوصف حقن مضاد حيوي لي. ذلك الشيء الكريه الذي طالما أشفقت على من تضطرهم الظروف إليه، الآن أنا مضطرة له، لأن رضيعتي لن تحتمل أن أتناول دوائي بالفم، سيصلها عبر اللبن بصورة أكبر، وهذا ما لن تحتمله، كما أن قدر الصديد الذي سيطر على جسدي فجأة كان بحاجة –حسب الطبيب- إلى دواء سريع ينقذ الموقف وينقذها أيضًا، لم يكن هناك مناص.. فقبل أيام قليلة لم أكن قادرة على القيام من موضعي على السرير، مع ذلك كنت أواصل إرضاعها وتحضير الفطور لشقيقها والتفكير في الغداء، وتأنيب نفسي لأنني غير قادرة على تنظيف الشقة التي باتت أشبه بالخرابة لفرط الفوضى، بينما أنا عاجزة بلا حول ولا قوة.. كيف تعجزين؟!

أرثي نفسي أم لابنتي؟!

كنت وحدي في الشارع، لأنني تركت طفلي لزوجي خوفًا عليهما من النزول، فالجميع يخبرنا بضرورة البقاء في البيت، أما أنا فكنت مضطرة للنزول. أفكر في أن المرة الأولى التي سأتعرض فيها لذلك الألم لن يكون لديَّ وقت للخوف، أو حتى الرثاء لحالي، عليَّ أن أبحث سريعًا، وأنا أضع خوفي وضيقي وشعوري بالإحراج جانبًا، عليَّ أن أسرع لأن صغيرتي في البيت تبكي بحرقة.

“مناعتك نزلت، غالبًا نفسية أو إرهاق”.. عاجلني الطبيب حين زرته للمرة الأولى وأنا لا أقوى على الوقوف، بالسبب الذي قد يكون وراء إصابتي بالتهاب مماثل في حلقي، يومها أخبرني أن الصديد شديد ورأيت على وجهه علامة انزعاج، من مشهد حلقي “واضح إنه بقاله فترة” قالها بينما كان يحتفظ بمسافة  آمنة بينه وبيني خشية أن أكون مصابة بكورونا، شعرت بإهانة لا محل لها، الرجل محق في خوفه مني، أنا أيضًا كنت خائفة من كل المرضى الموجودين في الخارج، أفكر في السبب الذي قد يدعو أحدهم إلى زيارة طبيب أنف وأذن إلا إذا كان مصابًا بكورونا!

غصة في قلبي

“إرهاق” ترددت كلمته في أذني، فشعرت أنني أرغب في البكاء. لم تعد تلك الكلمة تليق بما أشعر به حقًا، المسألة أكبر وأكثر تعقيدًا مما أشعر به. في صباح ذلك اليوم المقيت وقبل أن أقرر أنني بحاجة فعلاً إلى زيارة طبيب ليساعدني، كنت أحاول نسيان ما بي عبر تصفح مواقع التواصل، حيث لم تكف صفحة بعد أخرى عن تعداد كم الأمور المفيدة التي يمكن للناس أن يستغلوا وقت فراغهم خلال الحظر في  اقتناصها، كالعادة، رحت أحتفظ بها في قائمة المشاهدة لاحقًا أملاً في وقت مناسب، لكنني مع كل فرصة كنت أحتفظ بها وأنا أعلم أنني عاجزة عن الاستفادة بها أو بغيرها كنت أشعر بغصة في قلبي.

إنني أنتهي شيئًا فشيئًا

تورم مكان الحقن بشدة وما زلت سأحصل على المزيد، إنني أعجز عن الجلوس براحة، يعاجلني الألم يعقبه حنق عنيف يعصف بي، لم يكن لديَّ وقت في بداية مرضي لألاحظ أني مريضة، لذلك تفاقم الأمر، حتى صرت مضطرة إلى كل هذا، لا يكف الصغير عن النداء “ماما ماما ماما ماما” صرت أكره فعل النداء، وأكره نفسي في أوقات عديدة، ما كل هذا؟! لماذا لا أكون أمًا جيدة وأجيبه بهدوء وألبي طلباته بسعة صدر؟! لمَ صرت كريهة وغبية وضيقة الأفق ونافدة الصبر إلى هذا الحد؟! هو لا يستحق هذا أبدًا! حتى الصغيرة أحيانًا أصرخ لتكف عن الصراخ، لكن أحدًا منا لا يتوقف أبدًا.

إنني أرغب في الكتابة، أرغب في الاستماع إلى موسيقى ما، أو مشاهدة فيلم أو حتى الجلوس هكذا دون أي شيء، أحملق في لا شيء، لم أعد أحلم حتى بالخروج من البيت، أنا هنا، ككل النساء، منذ وقت بعيد، لم يعد يغريني الخروج “هروح فين يعني؟!” لكن حتى تلك المساحة الضيقة الخانقة المميتة لم تعد  تخصني وحدي.

أجلس الآن وأرغب فقط في أن أقول إنني لست بخير، أشعر أنني بحاجة إلى رحاب. انفلت وزني، وأنهك عقلي، ولم أعد قادرة على العناية بأحد حتى نفسي، فكيف لي أن أعتني بصغار يرونني كل شيء بالنسبة إليهم؟! أطفالي بحاجة إلى أم أكثر قوة وبأس، إنهم بحاجة إلى مزيد من الحنان واللطف، وأنا صرت غير صالحة للاستهلاك. يخبرني زوجي أن أكف عن الصراخ “أعصابنا تعبت”، بينما أحاول البحث عن حل، مساعدة ما، لكن لكل مصيبته.. ولا أمل في فواصل قريبة حتى لو كانت قصيرة.. ما الحل إذًا؟!

يقولون إن كل هذا قد يستمر لعام ونصف تقريبًا، حسنًا.. سأنام الآن وأستيقظ في محاولة جديدة للتأقلم وإيجاد صيغة مريحة، سأواصل الاحتفاظ بكل تلك الفرص التي فاتتني، الأفلام التي شاهدها الجميع دوني، المسلسلات التي تثير غضبهم وتسعدهم، مقطوعات الموسيقى، ألبومات التوصية بالأفلام، الكورسات والمحاضرات والجولات المجانية داخل المتاحف، ستتواصل غصتي لأنني ما زلت عاجزة عن كل شيء تقريبًا باستثناء العجز، والحلم بأن كل شيء قد يصبح يومًا على ما يرام.

اقرأ أيضًا: قبل نهاية العالم بقليل

المقالة السابقةالحياة تستاهل نحارب علشانها
المقالة القادمةمن قلب الليالي الصعبة.. وحتى نلتقي أوصيك بنفسك خيرًا
كاتبة وصحفية مصرية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا