علمتني إيفيلين بوريه أن التعلم يمكن أن يغير الواقع.. وعلمتني ندى كيف يجبرنا الوقع على التعلم.
من هي إيفلين بوريه؟
فتاة سويسرية جميلة جاءت مع والدها إلى مصر منذ أكثر من نصف قرن، حيث كان عمله، عندما أتت إلى مصر تعرفت على الشاعر الغنائي سيد حجاب. أحبته وتزوجته. في زيارة لإيفيلن مع زوجها لمدينة الفيوم وبالتحديد في قرية تونس التابعة لمركز يوسف الصديق، تلك القرية الصغيرة التي تبعد عن القاهرة أكثر من 100 كيلومتر، والقريبة من بحيرة قارون، سَحرتها الطبيعة الخلابة، ووجدت بعين الفنان أن هذا المكان يستحق أن يترك الإنسان من أجله كل شيء ليعيش فيه.
بالفعل استطاعت إيفيلن الدارسة للفنون التطبيقية في مدينة جينيف السويسرية، بكل حضارتها، أن تقنع زوجها بالعيش في هذه القرية الصغيرة القابعة في صعيد مصر.
منزل إيفيلين المميز
انتقلت إيفيلين وزوجها في منتصف الستينيات إلى قرية تونس بالفيوم، بناء على رغبتها وإلحاحها، وبنَت بيتًا جميلاً له طابع فني خاص ومميز، تحيط به الخضرة من كل مكان، وعلى مساحة شاسعة من الأرض يحد المنزل سور جميل من الحجر والطين. ورغم إنفصال إيفيلين عن الشاعر سيد حجاب، فإنها لم تنفصل عن هذا المكان الساحر، الذي أصبحت جزءًا منه وقررت الاستمرار بالعيش فيه، بل أوصت أيضًا بعدها أن تدفن فيه.
عين الفنان والتعلم في مدرسة الفخار
استطاعت ايفيلن بعين الفنان ودراستها للفنون التطبيقية أن تلمح مواهب الصغار أثناء لعبهم بالطين، ووجدت فيهم فنانين صغار. لمعت في ذهن إيفيلن فكرة مذهلة، كانت سببًا في تغيير حال القرية كلها، ألا وهي مدرسة لتعليم عمل الفخار والخزف.
كانت تونس قرية صغيرة يعاني أهلها من البطالة والعوز والفقر والجهل، وإذ فجأةً تظهر هذه السيدة الجميلة ذات الملامح الأوروبية، لتهتم بصغارهم وتدعوهم لتعلم شيء مختلف وجديد ومحبب. تدعوهم لمدرسة غير كل المدارس التي اعتادوها، مدرسة يعشقها الصغار ويُقبِلون إليها راغبين لا مرغمين، إنها مدرسة الفخار التابعة لجمعية “بتاح لتدريب أولاد الحضر والريف على أعمال الخزف”، كما سمتها إيفيلين، وكأنها تستدعي أرواح وأمجاد أجدادنا القدماء، حيث امتاز بتاح بالحكمة، وكانت من كلماته “الحكمة قد توجد في أي مكان حتى بين النساء الجالسات أمام الطواحين”.
بالفعل أصبحت نساء القرية البسيطات الأميات، بفضل التعلم في هذه المدرسة، فنانات منتجات يأتي إليهن السياح من أنحاء العالم، لرؤية فنهن واقتناء أعمالهن الفنية التلقائية الجميلة. بل أصبح عدد من سيدات القرية رائدات في صنع الفخار، وانفصل البعض منهن ليكون لهن ورش خاصة. وسافر البعض إلى الخارج لعرض أعمالهن الفنية.
التعلم غيَّر مسار القرية
أصبحت قرية تونس بفضل فكرة إيفيلين عاصمة للفنون اليدوية، وأصبحت مدرستها مزارًا سياحيًا مفتوحًا طول العام، وملتقى سنويًا للخزافين وأصحاب الحرف اليدوية.
الآن لا تجد في قرية تونس إنسانًا عاطلاً، فالكل يعمل بالفخار أو الخوص أو السجاد اليدوي، أعمالهم تُصدر إلى الخارج، وأصبح هناك مهرجان سنوي للفخار، يحوي ورش للعمل ومعارض للفنون ومسرح العرائس، بل يأتي الفنانون من بلاد مختلفة عربية وأوروبية ليشاركوا بأعمالهم فيه. ووضِعت القرية ضمن أهم برامج الجولات السياحية بمصر، وأصبح بها أماكن تستضيف السائحين ويمكنهم الإقامة بضعة أيام مستمتعين بالفن والجمال والطبيعة الخلابة.
كما أقيم أيضًا هناك متحف فريد من نوعه لفن الكاريكتير، لا يوجد مثيله في جميع أنحاء الجمهورية. أقامه الفنان المعروف محمد عبلة. يحتوي على أقدم الرسوم الكاريكاتورية لفنانين من زمن فات. مثل صاروخان وزهدي وطوغان.
هل حقاً التعلم يغير الواقع؟!
فقط عندما نؤمن بما نفعله، يغير التعلم الواقع. استطاعت إيفيلن أن تغير واقع مدينة بأكملها من الفقر والعوز والأمية، إلى الإنتاج والغنى والعالمية، بفضل التعلم والإيمان بما تعلم وحب ما تعلمه وتعمله.
يمكنك أن تزور هذه القرية وترى حب الناس لإيفيلن وتقديرهم لجهودها، فرغم أن عمرها قارب على 77 عامًا، عاشت منها 50 عامًا في تعليم أهل القرية، فإنها ما زالت شغوفة بتعليم الناس الفنون المختلفة، ليس للمتعة فقط ولكن التعليم الذي يغير حياة الأفراد ويغير واقعهم وينقلهم إلى واقع أفضل وأجمل.
كما قيل في المثل الصيني القديم، لا تعطِني سمكة، لكن علمني كيف أصطاد، وبالفعل علمتهم إيفيلين كيف يصطادون، وكثيرون منا قد يفضلون السهل، أن نعطي فقط سمكًا.
علمتني إيفيلين كيف يمكنني بالتعلم تغيير الواقع للأفضل.
الواقع قد يدفعنا أيضًا إلى التعلم
على صعيد آخر قد يدفع الواقع والظروف والأزمات أن يتعلم الإنسان أمورًا لم تكن في مخيلته يومًا.
فنجد “ندى ثابت” الذي دفعها واقعها الجديد إلى تعلم وتبني أمور لم تكن تعرف عنها شيئًا.
من هي ندى ثابت؟
طبيبة شابة، تركت عملها المرموق في الأمم المتحدة، وتحديدًا في منظمة الفاو للأغذية، وهي في سن الثلاثين، لتتفرغ لتربية وتأهيل ابنها الأول، الذي ولد بضمور في المخ. لم يكن لدى ابنها “ماجد” سوى حاسة السمع. عانت ندى كثيرًا مع ابنها وعلاجه، مما جعلها تتبنى قضية ذوي الاحتياجات الخاصة، وجعلت رعاية ماجد وأمثاله رسالة وهدفًا لحياتها، لذا كان يلزمها العلم والخبرة في هذا المجال.
سافرت ندى إلى الخارج بمساعدة أسرتها. لم تكن الرحلة لعلاج ابنها فقط، لكن كانت رحلة للتعلم، ذهبت إالى نيويورك وكاليفورنيا لتتعلم كل ما يتعلق بالتعامل مع ذوي الاحتياجات الخاصة، حيث لم يكن بمصر مراكز للرعاية كما هو معروف الآن.
عادت ندى ثابت إلى مصر لتطبق ما تعلمته، وتفيد به آخرين أمثال ماجد ممن يعانون من عدم وجود مراكز للرعاية للسن الكبير. وفي سنة 2000 أنشأت جمعية باسم “جمعية الأمل”، على قطعة أرض تمتلكها قرب مدينة الإسكندرية، تخدم ذوي الإعاقة الكبار من سن 18 فما فوق، تعمل على تدريبهم وتأهيلهم للعمل.
أنشأت بالقرية مخبزًا آليًا للمخبوزات، وصوبات زراعية وورش للنجارة وسجاد. أصبحت قرية الأمل منتجة بفضل أولادها الذين تم توظيفهم ليصبحوا منتجين عن طريق تعليمهم وتأهيلهم. بدأت القرية بـ6 أفراد، ليصل العدد في فترة قصيرة إلى 45.
أطلقوا على ندى اسم “أم المعاقين”، فهي تسعى دائمًا إلى عرض قضايا ذوي الاحتياجات الخاصة والمطالبة بحقوقهم، ودمجهم في المجتمع، ورشحت لجائزة صناع الأمل بدولة الإمارات العربية. كما رشحتها جمعية سويسرية ضمن 1000 سيدة لجائزة نوبل للسلام، من ضمن حملة تهدف إلى تسليط الضوء على الأعمال القيمة التي تقوم بها النساء، للتغلب على النزاعات والترويج للسلام بإيجابية.
كيف يغير التعلم الحياة؟
إذا نظرنا بعمق إلى حياة إيفيلين وندى وغيرهما، سنجد كيف يغير التعلم حياة الأفراد والمدن والبلاد. فالتعلم يعطي للإنسان الاحترام لذاته وللآخرين، يمنح الثقة بالنفس ويقوي الشخصية، يساعد على تحسين الحالة الاقتصادية والاجتماعية.
تعلم عن جسدك وكيف تأكل أكلاً صحيًا فتتحسن صحتك. تعلم الرياضة وواظب عليها حتى ولو أبسط الرياضات فيتغير شكل جسدك للأفضل. تعلم الحرف والصناعات يتغير دخلك وتتغير حالتك المادية. إن كنت تشعر بملل في حياتك أو ضيق في العيش، أو احتياج مادي أو حتى شعور بالوحدة أو الغربة، تعلم أمرًا جديدًا، لتصبح حياتك دائمًا متجددة ومختلفة.
تعلم بجدية تتغير للأفضل، فالتعلم يجعل حياتنا دائمًا أفضل. تعلم من إيفيلين وندى.
اقرأ أيضًا: حكاية 3 بنات ملهمات