لا أكاد أفكر في عامي الموشك على الانتهاء 2017، إلا وجدت صورة بعينها تفرض نفسها على خيالي: صورتي وأنا جالسة على المقعد الخلفي لسيارة أجرة يقودها بسرعة سائقٌ مخبول بالكامل، يضحك بلا انقطاع ويضغط بقدم متهورة دواسة الوقود بلا توقف.
في المقعد الخلفي، كنت معظم الوقت في هذا العام.. أراقب السائق المخبول الضاحك دون كثير تدخل فيما يفعل: يدخل بالسيارة في واجهة أحد محال الآيس كريم، فأتذوق منه قليلاً وسريعًا على طرف لساني قبل أن نغادر المحل بمؤخرة السيارة من ذات الواجهة المهشمة.
يرتطم بشجرة عملاقة قديمة فيهشم رأسي ويُسيل دمي ويغرقني في مزيج من عرق الخوف ودموع الألم، دون أن يطرف له جفن.
يدهس كلبًا على قارعة الطريق فأصرخ هلعًا دون أن ينتبه لهلعي.
يمر محاذيًا لمقهى بلدي دون أن يبذل جهدا لتفادي الجالسين، ثم يغادرهم بسرعته الجنونية، تاركًا لي لمحات من وجوه تبتسم لي وأخرى تعبس، فأكمل بعدها الطريق المتعرج وأنا متحيرة بين الانبساط والتجهم.
يهدئ من سرعته قليلاً فأتنفس، ثم لا يلبث أن يزيد سرعته الجنونية ضاربًا فَرشة صغيرة فوق أحد الأرصفة، عليها بعض اللعب الرخيصة، فأمد يدي من نافذة السيارة لأختطف دمية حلوة لـ”زينب”ـي الصغيرة، وأنا أضحك كمثل ضحكه المخبول.
هكذا كان 2017، وهكذا كنت.. جالسة منحبسة الأنفاس من فرط السرعة وكثرة التساؤلات في رأسي، بقليل فقط من القدرة على تغيير أقداري، مارّة بمحال وأفكار ومشاعر ووجوه كثيرة جدًا، بعضها عابس وكثيرها باسم.
تغييرات كثيرة متلاحقة وقعت في حياتي هذا العام، أنهكتني ركضًا وراءها، محاولة كبح جماح بعضها والتسريع بوقوع بعضها الآخر.. فقدت وجوهًا قديمة للأبد، وأطلت عليَّ أخرى جديدة كثيرة، لا أدري إلى متى تلازمني. طرقت أبوابًا عدة، انفتح بعضها وظل بعضها الآخر مغلقًا صامتًا. دخلت دوائر عمل جديدة لأجد حياتي وقد اتسعت لتحتوي أسماء جديدة بحكايات جديدة وهموم وشجون وأفراح جديدة، واستعدت صداقات قديمة كانت تقف على أعتاب حياتي في انتظار أن أعود، فعدتُ وعادت، واسترددت كثيرًا من ذاتي التي خطفتها الحياة أو كادت، في متاهات الأعوام القليلة التي سبقت 2017.
في 2017 وقفت على مفترقات طرق، واتخذت قرارات من تلك التي اعتدنا أن يأخذها لنا “الكبار”، أو من التي رأينا آخرين يتخذونها فأشفقنا عليهم من تبعاتها، لكنّا لم نملك لهم الكثير.
في 2017 استرددت لذة السفر وحيدة غريبة بنقود قليلة ومتاع منحشر في حقيبة صغيرة، تمامًا كمراهقة لا تدري وجهتها، وفيه كتبتُ كثيرًا، وسهرت كثيرًا، وصليتُ كثيرًا وبكيتُ كثيرًا وتسكعت في شوارع القاهرة كثيرًا وانفعلت كثيرًا وأحببت كثيرًا وغضبت كثيرًا ولهثتُ وراء الفرص كثيرًا كثيرًا.
في 2017، مر بي طيبون كثيرون، وقفوا وربتوا ظهري في أزماتي المتتالية.. وقفوا وساندوا وساعدوا ودعوا وتصدقوا عليّ بالضحك والمودة ومكالمات الهاتف الطويلة المواسية، بين خريفين قاسيين وربيع تفتح له قلبي، كعادته في كل ربيع، وصيف حاولت فيه أن أؤدي أداء المرأة الناضجة والأم القوية.
في 2017 فرزت الأحباء، وعرفت بالمضبوط مكان كل محبوب ومكانته.. عرفت ما كان يجمعني بمن وكيف كان هذا الذي جمعنا قويًا أو واهيًا، وما كان رصيدي وما كان رصيده. عرفت متى أتكئ على من، ومتى يلزمني أن أزحف وحدي زحفًا لأحرز المكتوب على جبيني.
في 2017 عرفت ما يمكنني أن أغفر، وما ليس بمقدوري إلا أن أقف أمامه بكامل إنسانيتي وضعفي البشري دون تلبس هيئة الآلهة. عرفت بعض قبحي وبعض جمالي مما لم يكن تكشَّف لي قبلاً.. عرفت أني بانتصاف ثلاثينياتي وبأمومتي وبندوب تجاربي وتغير جسدي قد غدوتُ “سلمى” أخرى غير الـ”سلمى” التي اعتدتها.
في 2017 أعدت تجريب الله الذي أعرفه منذ طفولتي، وأعدت ثقتي في القوانين التي تحكم حبي وحبه، وانفلاتي وغضبه، وسخطي وصبره، ورجائي وحنانه.
في 2017 مررت بمحاذاة العشق فنجوت، ومررت بمحاذاة الكراهية فأنهكتني واعدة بهجري بعد أن يحتكم الإنهاك، وإما أن تنتصر أو أنتصر، ووضعت أمام الطبيب بعض شروخ جسدي القديمة المنسية، فعالجني مُعنّفًا على إهمالي الذي طال، ووضعت أمامه آخر شروخ عقلي ونفسي فلملمني بالثرثرة والضحك والكثير من الثقة في أن جوهري الأصيل كجوهر كل منا، لا يُخدش بالتجربة وإن علاه الطين.
في2017 أعدت صياغة معادلات بنوَّتي وأنوثتي وأمومتي بالكامل، وكاشفت نفسي بأني أخاف أشياء كثيرة من تلك التي ظننتها قبل سنوات فقط لا تخيف، واتفقت معي على ألا أخجل من ضحكي العالي، وأن أراني جميلة بكل الندوب في جسدي ونفسي، وتعهدتُ أمامي ألا يمر يوم دون أن أسلك فيه مسلكًا لعلم جديد.
2017 لم يكن عامًا عاديًا لأصفه بأنه كان عامي الجميل ولا عامي القاسي.. 2017 بالنسبة لي كان عام السائق المخبول.. وفقط.