بالصغر كانت صدمة بشعة على عقلي كطفلة أن أكتشف أني لا أحمل ملامح مميزة أو بجسدي علامة قوية صارخة مميزة. أن تقنع طفلة تشاهد كل هذه الأفلام عن الأبطال الخارقين أنها مجرد طفلة عادية وليس لديها أي فرصة لتكون مثلهم يومًا ما، كان بمثابة إحباط فج يعاقب عليه القانون.
فلن تكتشف يومًا ما أنها ابنة زيوس أو هيرا، وربما نسياها منذ زمن وسيحين موعد استردادها إلى الأوليمب لتتقلد المراتب العليا وتحكم الأرض وتشيع السلام والسعادة، وتصدر قوانين بتناول الحلوى إلى ما لا نهاية دون شكوى من تسوس الأسنان. ربما تصدر أوامر عليا بإعدام كل السوس اللعين.
كان من الكئيب والمحبط أن تعلم أن ليس لديها أي فرصة لتكون كائنًا خارقًا. ليس هذا فقط، لكن بهذا لن تستطيع والدتها أن تستدل عليها إن اختطفها مجرم ما لتجدها بعد عشرات السنوات كما يحدث بالأفلام العربية والهندية.
عندما تحققت من هذا علمت يقينًا أني لم أخلق لأكون بطلة الفيلم، أصابني الأمر بالإحباط في بادئ الأمر، وغضب عارم اجتاحني، عبرت عنه بطفولة في مواجهات غاضبة مع أمي، أسألها لماذا لم تتوحم على شيء ما بفترة حملي جنينًا؟ لماذا كنت كائنًا هادئ الطباع وغير مُطالِب منذ بدء خليقتي.
حتى جاء اليوم المصيري بحياتي، حين انفجرت باكية وأنا أخبرها أني لا أحمل أي علامة بجسدي، وقد تحققت من هذا جيدًا، وبهذا لن تستدل عليَّ إن اختطفت، وبهذا سأعيش طفولة تعيسة ملتصقة بك طيلة الوقت خوفًا من اختطافي، ولن يضحى لديَّ ذكريات طفولة سعيدة أشاركها صديقاتي في المراهقة أو تهون عليَّ شبابي. سأظل فتاة عادية يا أمي، وهذا يقتلني منذ الآن.
لتنفجر أمي ضاحكة وتحتضنني بشدة وتُقبِّلني على جبيني قائلة: “ما كل هذه التوقعات الدرامية التعيسة؟! وما الضير في كونك فتاة عادية؟!”، حينها رأيت أن جملتها هذه زادت الطين بللاً، فأكملَت: “ولكن لا تخافي، فأنتِ لست فتاة عادية، فأنا لديَّ سر لك سيحيل حياتك رأسًا على عقب. سر كنت أنتظر حتى تنضجين قليلاً لتتفهميه، وها أنتِ ناضجة لتستعيبينه”، حينها استحوذت على كامل تركيزي لدرجة أني لم أعد أسمع سوى صوتها ودقات قلبي.
كان صوتها حانيًا رخيمًا كالمعتاد، وجمَّلته بشعور عارم بالأمل حين قالت “عندما ولدتك كنتِ في حالة جسدية ممتازة وفرحنا جميعًا، فأنتِ على علم بتجربتي السابقة مع أخيكِ ملاك السماء. كان كل أملي يا صغيرتي أن تعيشي فقط، أن تعيشي يا فتاتي ولا تتركيني كما فعل أخيكِ الأكبر”.
فى المساء بعد مباركات العائلة وحب الجميع استسلمت لإرهاقي ونمت، وتركتك للممرضة، وكانت تُدعى “سناء”، كنتِ أول طفلة تستلم رعايتها “سناء”، فكانت تخاف عليكِ بما يناسبني كأم، وليس ببرود الممرضات الأخريات اللائي تعوَّدن على صراخ الأطفال. كانت تحمل حنو أم، ولذا اطمأننت تمامًا أن أتركك لها رغم كونها ببداية حياتها كممرضة.
في غفلة من الجميع توقف قلبك عن النبض تمامًا، وظنت الممرضة أنك توفيتِ، ولم يكن بجوارها أي طبيب ليسعفك، ولكن بحركات أولية حاولت أن تنعش قلبك الصغير ونجحت الحمد لله، حينها أيقظتني من النوم فزعًا وفرحًا وهي في غاية التوتر، تخبرني أنى كنت على وشك أن أفقدك، وسردت لي ما حدث، حينها طلبت منها بهيستريا أن تحضرك إلى حضني لأطمئن. فإذا بك هادئة الطباع تبتسمين لي كأنك تطمئنيني أنك صرتِ على ما يرام. منذ ذلك اليوم صرت متعلقة بكِ تعلقًا مَرَضيًّا ولا أهدأ إلا إذا رأيتك تبتسمين، وهذا هو سري الكبير”.
على غير المتوقع رأت عينَي حزينتين، فهذه المغامرة ليس لي أي يد فيها، فهي فقط ترتيبات القدر، وربما حظ قليل اصطحب هالتي حين ولدت. لتستكمل قائلة: “أنتِ مقاتلة محبة للحياة، وهذه هي قدرتك التي لازمتك منذ ولادتك، تحبين أن تحيي وتستمتعين بذلك، وتبتسمين للعالم. أعتقد -إن صح تعبيري- أن عندما فقدتك وعدتِ إليَّ من جديد كان وكأنه تصحيح مسار من الله، ليلقي بجسدك الجميل هذا روحًا أحلى، وكأنه نوع من سوء التصنيع في خط إنتاج الأطفال. كان لا بد للملائكة أن تهدي لهذا الجسد روحًا جميلة كروحك، وليس الروح الأولى التي سكنت الجسد لليلة بطولها.
أما الآن وبعد أن علمتِ الحقيقة عليكِ أن تصوني السر، وأن تبجلي هذا التغيير الطفيف بالخطط الذي صب بمصلحتك كلاً وجزءًا على مدار أيامك الطوال القادمة بحياتك الطويلة يا صغيرتي، وتأكدي أن هذا الجسد مثالي لهذه الروح الجميلة الباسمة، فهو جسد قوي يتماشى ويتفاعل مع المتغيرات، ولا يصاب بالضيق حتى حين أزاحوا منه روحه الأولى وأهدوه الثانية، تبسَّم وتفاعل بكل لباقة”.
حبتني أمي دون قصد بقصة أسطورية تبجل وجودي، لتجعل كل قصص الأبطال الخارقين المبهرة بمقارنة تجربتي مجرد نسج خيال طفولي تافه، لتكسبني منذ ذلك الوقت احترامًا عارمًا لتغيير الخطط وتبجيل الحظ، واستمتاعًا مبالغًا به بمراقبة كيفية توائم جسدي مع هذه الروح المُعدلة يومًا بعد الآخر، ربما قدرتي الخارقة السرية يا أمى تكمن في قدرتي على التأقلم مع كل المتغيرات الخارجية، كـ wolverineلأستطيع التبدل والتغير داخل نفس الجسد دون شكوى، لتلتئم جروح روحي العميقة متمسكة بهبة الحياة ذاتها.
فقط يلزمني بعض الوقت ليتأقلم جسدي مع مستجدات الوضع ثم أعود كما كنت، وربما أفضل.