يقاومن الاكتئاب بالمكرونة ومربى التوت

317

بإمكان النار أن تمنحك ضوءًا أو تلتهم كل شيء في عالمك وتتركك محترقًا بالكامل.

هناك نوعان من البشر النوع الأول عندما يرى النار يفزع وينكمش ويولول متفرجًا عليها وهي تقوِّض عالمه من حوله، وهناك نوع آخر عندما يعرف أن وجود النار شيء حتمي يفكر كيف يحتويها وكيف يمنعها من تدمير كل شيء، ويرى على ضوئها حقائق الأشياء.

الاكتئاب كالنار، مرض يهاجمك فلا ينفع معه حبوب الأسبيرين، الاكتئاب كالنار إما أن تتركه يدمرك وإما أن تتعامل مع الواقع. هنا سوف نحكي عن ثلاث فتيات يقاومن نار الاكتئاب بدلاً من تركها تسعى في حيواتهن كما تشاء، ينجحن أحيانًا ويتعبن أحيانًا، ولكنهن في كل الأحوال يحاولن فينتصرن على النار ويحاوطنها بالكثير من القوة.

برطمان من مربى التوت
أعرفها.. فتاة لطيفة نبرة صوتها رقيقة وتستأذن قبل أن تتحدث، عندما تهم بقول شيء مخالف لرأيك تراها في البداية توضح أنها لا تقصد مهاجمتك. ثقافتها واسعة وتمتلك القليل من الأصدقاء وتاريخًا طويلاً من أسباب اليأس.

تعيش مع الاكتئاب، وهذا ليس تعبيرًا مجازيًا، هي تعيش معه فعلاً، تعاني من الاكتئاب وتعمل وتقرأ وتكتب وتذهب للطبيب، وتتحدث عن الطيبين الذين يقابلونها يوميًا وتحكي ذكرياتها. هي تقاوم بكل ما تمتلك من قوة، تحيط نار الاكتئاب بسور فولاذي من التصميم على الانتصار، تحتفل بكل التفاصيل الصغيرة التي يراها الآخرون عادية، حتى برطمان مربى التوت الذي اشترته رأته حدثًا يستحق الاحتفال.

نعم.. هي تحتفل بكل الأشياء التي تحيي قلبها، حتى لو كان برطمان مربى وجدته بسعر مناسب فامتنت للحياة أن منحتها إياه. شجَّعتني أن أبحث عن نفس النوع والطعم، وعندما اشتريته وتذوقت ملعقة شعرت أن هذا هو طعم الفرح، فرحت بها وبقوتها ومقاومتها، هي تضعف بالتأكيد ولكنها دائمًا تقاوم، دائمًا تنهض متسلحة بقدرتها على رؤية الفرح وقوتها في مواجهة النار، وببرطمان من مربى التوت.

حلة ترمس
تجمعني بها علاقة زمالة والكثير من المعارف المشتركين، نتبادل الأحاديث في إطار الصديقات وفي مواضيع حميمية حتى لو لم تجمعنا علاقة مباشرة، أعرف أنها تعاني من مرض الاكتئاب، وأعرف أنها تجيد الاستمتاع بالحياة رغم ما تمتلكه من أسباب قوية للكفر بها. مؤخرًا شعرت أنني أريد صداقتها، أحببت تلك القوية العنيدة التي تقاوم الاكتئاب بحلة كبيرة من الترمس.. نعم حلة ترمس كانت هي السبب الأول في أن أفهم قوتها.

كانت تعاني نوبة اكتئاب شديدة وتطلب المساعدة، لا تريد من الحياة سوى أن تتركها تنام في سلام، كانت تريد أن تختبئ من كل شيء، وحكت قليلاً عما تشعر به وبعد قليل من التشجيع والتقبل نهضت من فراش الهروب وعقصت شعرها وعزمت على أن تنتصر على النار الشريرة، نظفت المنزل وصنعت طعامًا شهيًا وكانت فخورة بنفسها أكثر من فخرنا -نحن الصديقات اللاتي لا نمتلك سوى الكلام- بها.

أخبرتنا أنها صنعت حلة ترمس كبيرة، فتيقنت لحظتها أنها تقاوم بقلبها فعلاً وليس جسدها فقط، تلك فتاة لم تكتفي بطقوس محفوظة كي تثبت لنفسها أنها تقاوم، بل هي فعلاً تريد النهوض، هي لم تقم بحركات أوتوماتيكية تضمن لضميرها الصمت وتجعلها أمام نفسها غير مُقصِّرة، بل صنعت حلة ترمس لا تصنعها إلا ذوات البال الرائق والرغبة في الاستمتاع بالحياة. كانت النار تحاول أن تلتهمها فاستطاعت بمهارة أن تطفئها في حلة ترمس.

أطباق مكرونة وقطع كوروشيه
أعرفها من صورها ومن حكاياتها المقتضبة، جميلة جدًا لا تنبئ ابتساماتها عن إصابتها بالاكتئاب، تحكي أحيانًا عن أسباب قوية كان من الممكن أن تجعلها فريسة سهلة له، أحيانًا بالفعل تقع ولكنها تعرف أن عليها أن تنهض، فلها طفلة كالحورية تحتاج أمًا قوية ذات ذهن حاضر لتقف أمامها مثالاً للمقاومة.

هي تحب المكرونة وتتفنن في صنعها. أراها تصنع أطباقًا مميزة وتقدمها للآخرين، فتنتشلها ابتساماتهم ورضاهم عن طعمها من براثن الوحش الناري، تدفئ أطباقها المصنوعة بحب من يتذوقها، وتدفئ أجسادهم قطع الكوروشيه الملونة التي تصنعها لهم أيضًا.

هي فنانة، تعرف أن الاكتئاب موجود لا سبيل لقتله تمامًا، ولكنها تحبسه داخل أسوار من الطعام والصوف، لا يستطيع الفكاك لمهاجمتها وهزيمتها. تحيط نار الاكتئاب بحب المكرونة والخيوط الملونة، وتظل جميلة جدًا حتى لو كانت تربي وحشًا ناريًا في منزلها.

كانت تلك حواديت ثلاث فتيات يقاومن الاكتئاب، الاكتئاب الحقيقي الذي يشخصه الأطباء ويعالجونه بالعقاقير، اكتئاب بإمكانه أن يقضي على غيرهن حتى لو كان أقل وطأة، ولكنهن اخترن الطريق الصعب الذي يجعلهن بطلات في النهاية. هناك آخرون يتركون النار تلتهم حياتهم ويقفون ليتفرجوا متذرعين بأنهم لا يقدرون على المقاومة، أما أولئك القويات فقررن أن يجعلن نارهن نورًا، وينتصرن على الوحش الضاري رغم ما تمتلكه كل واحدة منهن من أسباب قوية لليأس والكفر بالمحاولات، ولكنهن اخترن أن يقاومن، وأن يكن قويات.

“الجميلات هن القويات
يأس يضيء ولا يحترق”
محمود درويش

المقالة السابقةالاكتئاب.. بين المرض وموضة العصر
المقالة القادمةكيف أتغلب على فقدان الشغف
كاتبة وصحفية مصرية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا