أعيش في هذا المنزل منذ ٢٤ عامًا، أسكن نفس المكان وأحفظ شوارعه وسلوكيات أهله، أكثر من عقدين تنقلت خلالهما بين درجات مختلفة من التعود فالكره فالحب للمنطقة، ذلك لأن الحياة في شارع فيصل تشبه لعبة مغامرات مجسمة، لا تنجح فيها من المرة الأولى، بل تظل تفقد الحياة تلو الأخرى، وتعيد المستوى من بدايته، حتى تحفظ أماكن الفخاخ، وتضبط إيقاع حركتك على موعد تساقط الصخور من السماء.
فمثلاً.. نحن في فيصل لا نشتري الأحذية البيضاء، وإن رأيت من يرتديها فهو زائر، أو جار جديد على وشك تعلم تلك القاعدة بمقابل ليس مجانيًا، الخروج من فيصل في الساعة السابعة صباحًا يستغرق ربع ساعة، وساعة إلا ربع في الثامنة صباحًا، وهو شيء يمكن فهمه بالمنطق. أما أن تكون الطالبية أقرب من المطبعة، ولا زال الوصول إلى الدائري من المطبعة أسرع، ذلك هو اللغز الذي وقف أمامه المحقق كونان عاجزًا.
خلال كل هذه السنوات، استيقظت على أنواع مختلفة من الضوضاء في الليل، كان أكثرها تكرارًا سوء تفاهم بسيط بين شباب المنطقة، كانوا يحلونه دائمًا بطريقة تدهشني، حيث يحسمون الجدل بكسر زجاجات المياة الغازية الفارغة فوق رؤوس بعضهم بعض، حتى تظهر نقطة الاتفاق، لا أعرف إن كان أصحاب المحال توقفوا عن ترك تلك الصناديق في الخارج أخيرًا، أم أن زجاجات المياه الغازية قد انقرضت، إلا أن الظاهرة تضاءلت.. وهو المهم.
ولكن بين العديد من ماتشات الكرة وصيحات خيرة رواد القهوة، وتلك السيدة التي تخرج عن وقارها عندما يأخذ أحدهم ركنتها، لم يبهرني أحد بقدر ما أبهرني بائع البرتقال هذا، يبيع البرتقال الحلو فقط، ودائمًا ما يقترح على زبائنه أن يعملوا منه كيكة، المشكلة الوحيدة أنه كان يسرح بالبرتقال في الثانية فجرًا، يمر لينادي مرارًا وتكرارًا، ويحلف بحلاوة برتقاله، ثم يمشي.
في البداية كنت أضحك من مناداته وطريقته، ولكنني كجميع جيراننا بعد الضحك تساءلت، من سيشتري البرتقال في الثانية فجرًا؟!
مرة تلو الأخرى يوقظني بائع البرتقال الكائن الليلي، في الثانية صباحًا، يحاول أن يبكر قليلاً أو يبطئ الخطوة، حتى يقضي وقتًا أكبر في الشارع، أملاً أن يشتري منه أحد، ويتغير سؤالي.. هل يندب بائع البرتقال حظه؟ هل يشكو قلة الرزق وضيق الحال كباقي البائعين، أم أنه يعرف السبب في قلة زبائنه، إن افترضنا بهذا أن هناك من سيشتري.
يخفت صوت البائع بينما يبتعد عن منطقتي شيئًا فشيئًا، ويتركني فريسة سهلة لسيل الأفكار التي تجرف الأخضر واليابس برأسي، لا أعرف لماذا يستدعي نداؤه دائمًا مقولة عمر طاهر: “أن تكون كاتبًا في بلد لا يقرأ أشبه بأن تكون بائعًا للبلالين في المقابر”. أتأمل الفترة التي أمر بها الآن، وكم الأفكار التي ترفضها مديرتي بسبب عدم ملائمتها لنوعية القارئ -وهي محقة- وأقول في نفسي، ما داهية لأكون ببيع البرتقال الساعة 2 بالليل أنا كمان! وزعلانة!
سرحت بالبلالين في المقابر كثيرًا، في كل مرة كان يحكي لي فيها شخص ما عن خيانته لفلان ومقلبه في علان، ولم ترجعني تلك الحكايات للوراء أو ترعبني لحظة، في كل مرة توسمت الخير فيمن لا خير منهم، كنت أسرح بالبلالين في المقابر، وأبيع البرتقال في الثانية صباحًا، وأتعجب لعدم إتيان كل هذا المجهود والسعي بأي نتيجة، كنت ألوم السعي دائمًا وأتخيل أنه لم يكن كافيًا.
سرحت بالبرتقال في الثانية صباحًا عددًا لا نهائي من المرات، في صداقاتي واختياراتي والكثير من المجهود الضائع في الوقت الخاطئ أو المكان غير المناسب، كان شكي دائمًا في بضاعتي، وكان مجهودي دائمًا مُنصبًّا في محاولة إرضاء من حولي، أحلف بديني أن البرتقال حلو وبسرّة، بينما البضاعة مجرد عامل واحد فعّال في قائمة طويلة.
لعل بائع البرتقال هذا يمشي عائدًا إلى بيته كل مرة يفكر في تغيير الميكروفون بواحد آلي، كباعة الشواحن والسماعات في رمسيس، ميكروفون يدفعك إلى كسره على رأس البائع أكثر مما يدفعك إلى شراء المنتج. لعل هؤلاء الباعة أيضًا يتعجبون لما تزداد سرعة المارة للخروج من هذه المنطقة أربعة أضعاف!
من سيناديك في الثانية صباحًا على الأغلب سيسبك ولن يشتري منك، ومن سيطلب بالونة في المقابر أغلب الظن يريدها لاستدراج طفل وخطفه، وربما هذا هو التفسير الوحيد إلى كم الأوغاد الذين تلقي بهم الحياة في طريقك.
نحن في فيصل لا نعرف أسماء جيراننا، ولكننا نحفظ وجوههم، ونبتسم لهم، ونتركهم يداعبون أطفالنا في الشارع، نتدخل لنصرتهم أمام الباعة دون دعوة مسبقة، ونتبادل الشكوى ومشكلات المنطقة، دون أن نبدأ بالسلام، كل هذا دون أن نسأل عن أسماء بعضنا بعض، بمجرد أن نلتقي بغريب في مكان ما، ثم يخبرنا أنه من فيصل، تحدث بيننا ألفة فورية، فهو يعرف شوارعنا ومشكلاتنا، ألفة شبيهة بالتي تحدث فوريًا عندما تسمع “وأنا كمان” كتعليق على حدث أليم مررت به، بل أن الجيران في الخيبة قد يكونون أقرب إلى القلب كثيرًا من جيران السكن، على الأقل يدركون ما يعنيه أن تشعر بالذنب نحو نفسك، بعد أن يهدأ غبار المعركة وتدرك أنك كنت تبيع البرتقال في الثانية صباحًا.