هبه
تمتلك عائلتي بيتًا كبيرًا واسعًا، تدخله الشمس من كل جهة وتحيط به حديقة خاصة. يعود منزلنا هذا لأربعة أجيال مضت. جميعنا تربينا بين جدرانه. لعبنا على سلالمه العريضة. لا نشير لبيتنا هذا باسم مالكه أو على أنه بيت جدي أو جدتي. جميعنا نطلق عليه البيت الكبير.
البيت الكبير صار الآن متحفًا لجميع أموات العائلة. أما أحياؤها فلا يجدون فيه موطئ قدم.
منذ عشرات السنين توفي زوج عمتي الكبرى، فانتقلت بكل محتويات بيتها للبيت الكبير. أما عندما تزوجت مرة أخرى فقد خرجت وحدها وبقي الصالون المُدهب وغرفة النوم البلاكار والسفرة الدمياطي ذات الخشب الثقيل.
بقوا ورتبوا لهم موضعًا وسط أثاث البيت القديم.
أما عندما عادت خالتي وزوجها من إعارتهما بإحدى الدول العربية، فقد قررا تجديد أثاث بيتهما كله. لذلك فقد جاور بتوجازهما المصانع الحربية ذا الشعلات الأربع بتوجاز جدتي، واستقر تليفزيون جدي التليمصر في الدولاب الخشبي القديم الذي كان يحتل صالة بيت خالتي.
بينما انحشر السريران الصغيران لأولاد خالتي بجوار سرير خالي في حجرته بآخر المنزل.
كلهم رحّب بهم البيت الكبير، كما رحب بصالون عمتي المدهب وغرفة النوم البلاكار والسفرة الدمياطي.
كل هذا يمكن قبوله أو حتى تفهّم أسبابه، أما ما تفعله زوجة خالي وجدتي فهو الجنون بعينه.
زوجة خالي لا تطيق قطعة أثاث في بيتها لأكثر من ثلاثة أعوام، أما أدوات المطبخ والمائدة فتُجدد سنويًا، بينما ترى جدتي أن في التخلص من كل هذا إسرافًا لأنهم “جُداد ويمكن نحتاجهم” على حد قولها.
لذا فالداخل إلى قاعة استقبال البيت الكبير يرى كنب جدتي الإسطنبولي يجاور صالون عمتي المدهب، ويقبع وسطهما أنتريه زوجة خالي المودرن.
وفي المطبخ نرى مئات الأطباق التي لا تشبه بعضها بعضًا، والتي تتنوع بين الصاج والألومنيوم والملامين والصيني والبايركس (هذا بالطبع يخص زوجة خالي). بينما الرف الكبير يحتضن الهون النحاسي والهاند بلندر في مساواة تامة.
وسط كل هذه الفوضى تربّي الجيل الرابع من عائلتنا. كنت ألعب أنا وإخوتي وأولاد أعمامي وخالاتي الأستغماية، ونختفي تحت الكراسي مختلفة الأشكال والمقاسات.
اليوم كبرنا. وصرنا نذهب هناك في المواسم والأعياد فقط، أو حينما يسمح الوقت والظروف بذلك.
صار البيت متهالكًا كئيبًا، ولم تعد الشمس التي تدخله قادرة على إزالة رائحة العطن التي تسكن في السجاجيد القديمة.
الأولاد الآن كبروا وصاروا يرفضون تناول طعامهم في الأطباق القديمة التي ما زلت أعتقد أنها فاتنة، وأن العظمة الغابرة للبيت الكبيرة ما زالت موجودة في الرسومات المطموسة على حوافها.
ماتت جدتي، وبعدها مات جدي، ثم عمتي الكبرى، وتفرقنا كل في بيت.
آل البيت الكبير في النهاية لأصغر أبناء خالي الذي قرر أن يتزوج فيه.
وافقت العروس بالطبع، لكنها اشترطت تجديد البيت. اجتمعنا مرة أخيرة لنقرر مصير متحفنا العائلي وما يحتويه من أثاث جدتي وعمتي الكبرى وخالتي وزوجة خالي.
بعضنا قرر أن يحتفظ ببعض قطع الأثاث على سبيل التذكار، والبعض الآخر اقترح بيع كل شيء.
اخترت أنا أن أحتفظ بالسبرتاية النحاس التي كانت جدتي تعدّ عليها قهوتها الصباحية، وبعض الأطباق الأثرية التي سأستخدمها في عملي، ومجموعة من أدوات المطبخ التي تحمل رائحة كل وجبة طعام تناولتها هذه العائلة.
أما باقي محتويات البيت فقد جاءت شركة متخصصة في شراء الأثاث القديم ورفعته كله، وشيّعناها جميعنا بالدموع كما شيعنا جدي وجدتي.
بعنا كل شيء وقطعنا صلتنا بالبيت الكبير، الذي أصبح الآن بيت العروسة.