منذ أكثر من 20 سنة واجهت الفقد بقُبحِه وألمه وبغتته، فقد كنا نلعب ونجري أنا وابنة عمي في إحدى قرى الساحل الشمالي، حيث تعودنا أن نذهب إلى المصيف مع عائلة والدي كل سنة. بالصدفة سمعنا أحدهم يقول لوالدينا “البقية في حياتكم”، وبعد ذلك تسارعت الأحداث، إذ يستعد الجميع للرجوع للقاهرة رغم أن اليوم المحدد للعودة لم يأتِ بعد.
توقعت أنه أحد أقرباء العائلة، ولكني لم أتوقع للحظة أن يكون أحد أهم الناس لديّ.. لقد كان هذا اليوم هو يوم وفاة جدتي وصديقتي وحبيبتي “تيتة فضيلة”. لن أنسى كيف أخبرني أخي ونحن في السيارة في طريق العودة، وكيف كذَّبته، فقد كان كثيرًا ما “يشتغلني”، ولكنه هذه المرة كان يعرف جيدًا ما يقول، وإن كان هذا هو أبعد شيء توقع أن يخبرني به يومًا. تمنيت لو استطعت أن أودعها، ولكن كيف يُقبَل أن ترى طفلة جدتها المتوفاة؟! مرت الأيام والأسابيع وحتى الشهور وأنا أبكي وحدي وأتوسل لجدتي أن تعود وتأخذني معها، ولكن كانت الأيام أقسى من أن تلبي طلبي.
وبعد مرور هذه التجربة المريرة، التي حفرت داخلي معنى الفقد وقسوته، أراني للمرة الثانية أمام فقد جديد عنيف، هز كياني وأفقدني سلامي واتزاني، ولكنه هذه المرة أتاني وأنا أم ولست طفلة صغيرة، غير مسموح لي هذه المرة أن أنهار، فأنا الآن مسؤولة عن تعايشي مع ألمي، بل أيضًا مسؤولة عن طفلة تواجه هي الأخرى، لأول مرة في حياتها، الفقد بفجأته ووجعه.
اقرئي أيضًا: بعد رحيل الأحباب: كيف شكَّلتني تجارب الفقد
ولكن كيف أتعايش مع فقد من كنت أنا شغلها الشاغل طوال سنين عمري الـ31؟ فلم يمر يوم من أيام وجودي في هذه الدنيا إلا وكانت تفكر في راحتي وسعادتي، كيف أتأقلم على فقد ملاكي الحارس؟! كيف أتأقلم على فراغ لا تستطيع كلماتي أن تصفه؟! فقدت أمي وجدة ابنتي وأهم معجبيني، أو قد تكون هي جمهوري الوحيد. وفقدت ابنتي “فريدة”، “تيتة سنسن”، كما كانت تسميها، التي كانت هي نافذتها على الدنيا في أول أيام عمرها، وكانت هي سبب ثراء لغتها وتعبيراتها الدقيقة منذ بدأت الكلام. “تيتة سنسن” كانت لـ”فريدة” هي رمز المحبة غير المشروطة وغير المحدودة، فحتى على فراش المرض كانت تفكر كيف تهتم بها وترعاها.
برغم محاولاتي للتعايش مع الاكتئاب منذ سنة مرت، لكن وفاة والدتي بعد صراع مع مرض العصر، السرطان، كان له مفعول النكسة فيما حققتُه من خطوات تجاه مرضي. لم تعد إنجازاتي مفرحة وملهمة كما توقعت أن تكون، فبرغم تغلبي على الخوف من التغيير وتحقيقي لحلم “الكاريير شيفت” لكن سعادتي بهذه الخطوة ينقصها الكثير. وماذا عن عملي بقرب المنزل؟ ألم أكن أحلم بهذا اليوم الذي سأستثمر فيه كل لحظة ولن تضيع ساعات وساعات من عمري وأنا في السيارة؟ وشغف الكتابة، الحلم الأغلى، لقد وجد طاقة نور أخيرًا حيث هو الآن ليس مجرد شغف ولكن أسلوب حياة.
نعم برغم كل ما سبق من أحلام محققة، لكني لا زلت أُصاب بالحزن العميق والغضب الشديد، وكأني أعاني نزيفًا داخليًا لا تستطيع أجهزة الطب الحديثة التعرف عليه. فالنوم يغيب لساعات برغم إرهاق الجسد، والأدوار اليومية البسيطة أراها أحمالاً ثقيلة تكاد تكسرني، وأمام أصغر المواقف أراني أغرق في بحر من الدموع.
أدركت احتياجي للمساعدة حينما رأيت الخوف في عيني ابنتي ذات العامين. هل حقًا هي تخاف مني؟ من صوتي! ومن ملامح وجهي! هل أنا أفعل اليوم نفس الأفعال التي آذتني بعمق في الماضي؟ هل أنا مصدر الأمان والراحة والحنو، أكون لها أيضًا مصدرًا للخوف؟ كيف لها أن تستوعب مثل هذه الرسائل المتضاربة والمؤذية والمشوشة لمفهوم الأمومة؟هل أنا حقًا أغضب من بكائها ومن طلباتها من أصغر احتياج تعبر عنه؟ فكيف، وهي أغلى ما لديَّ، أكون أنا من تؤذيها، بل وتخيفها؟! فهل أنا حقًا أفقد السيطرة؟ كان لهذه الاستنارة الفضل في أول خطوة خطوتها لطلب المساعدة من مختص، حيث كانت المفاجأة “أنا أعاني من الاكتئاب”!
ليست المفاجأة في نوع معاناتي، ولكن في كوني أنا من تحتاج لبعض الطبطبة والاهتمام، مع أني في الأساس أفعل كل هذا للاعتناء بابنتي ونفسيتها. اكتشفت أني أنا من تحتاج لبعض، أأأو لنقل للكثير من الاعتناء، بل وأيضًا الدواء.
لم تنته قصتي بعد، فغدًا هو يوم جديد أحاول فيه أن أجد طريقي للفرح والاستمتاع بالحياة، برغم مشاعر الحزن التي تعودت أن تزورني دون استئذان. فإن كان اكتئابي كظلام الليل فنور الفجر حتمًا سيجيء، وحتى إن طال ليلي، فأنا أتعلم أن أرى النجوم تنير سماي.