في دوائر الحكي.. رحلتي من الرفض إلى القبول

561

ارتسمت تلك الابتسامة على وجهي طوال عمري، حتى في الأوقات غير الملائمة تمامًا للابتسام، لم أكن أملك إلا هذا التعبير على وجهي، كلما تجهمت تذكرت والدتي وأنا صغيرة عندما كانت عيناها تتسعان في تهديد إذا ما رأت شبح بكاء أو تجهم أمام الأقارب، ثم تقول بفم شبه مغلق في محاولة لعدم لفت أنظار المحيطين “افردي بوزك.. عيب كده!”، حتى اعتدت ابتلاع مشاعري وتجميد الدموع بداخلي، فصارت جبلاً جليديًا يجمد معه كل مشاعري الأخرى ولا يترك سبيلاً إلا فقط لابتسامة أو ضحكة مزيفة.

 

عندما تدهورت بي الحال وصرت أواجه أحداثًا عنيفة بحياتي بنفس الابتسامة، شعرت بأن هناك شيئًا ما على غير ما يرام. وجدت نفسي أفعل الكثير مما كان من المفترض أن يشعرني بالسعادة البالغة، فلا أجد إلا هذه الابتسامة المزيفة الخالية من الحياة والتي لا تبقى إلا قليلاً. ثم بدأ التجهم في التسلل إلى وجهي ثانية. أحاول إنكاره أو إخفاءه، ربما بتشتيت انتباهي عن ما يدور وراءه بالإفراط في العمل أو الخروج والأنشطة. كنت أكرهه، أكره حزني وهشاشتي وخوفي وألمي، فبدأت أبحث عن المساعدة للتخلص من هذا “البوز” الذي يجعل كل من حولي ينتقدني بشدة ويطالب بعنف للرجوع إلى الابتسامة حتى وإن كانت مزيفة.

 

عندما حضرت أول مجموعة دعم نفسي، جذبتني كثيرًا قواعد المجموعة، التي كانت تجول قبل ذلك في خيالي كرسومات مبهمة لا أستطيع صياغتها في كلمات، لأنني لم أكن أصدق أنها ممكنة. سأحكي بحرية وسرية، وسوف يحترمونني ويقبلونني بشكل غير مشروط، لن يصدروا الأحكام ولن يقاطعوني أو ينصحوني أو يعظوني أو يقللون من مشاعري أو يقارنون آلامهم بآلامي، أو يسألونني بفضول عن المزيد.

 

كنت متشوقة كثيرًا للتحدث بحرية عن مشاعري التي طالما تجاهلتها، حتى شعرت أنها صارت كيد مبتورة لم أعد أشعر بأي نكزة توجه إليها.

 

أكثر ما استغربته في أول مرة كان السؤال “بماذا تشعرين الآن؟” لم أكن أعلم بماذا أشعر، لم أكن أعرف سوى “حزينة وسعيدة” وأرفض الاعتراف بحزني، فعجزت تمامًا عندما طُلب مني ذكر 3 مشاعر أشعر بها، ثم أنقذتني منسقة المجموعة وهي تعطيني ورقة فيها العديد من أسماء المشاعر، التي اندهشت حين قرأتها لكثرتها وتنوعها، كيف كنت أدرجها جميعها تحت “سعيدة” أو “حزينة”.

 

استنكرت في البداية تلك المنسقة التي كانت تتحدث عن شعورها بسوء شديد، استغربتها كثيرًا، وتساءلت ما الغاية من أن نعترف بهذا الكم من السوء الذي نشعر به حتى نعيش مثل هذه اللحظات الحالكة! ظننت أنني آتي إلى هنا حتى أحسن مزاجي وألا أشعر بالسوء ثانية، حتى علمت أنني أحكي حتى أطلق سراح مشاعري، أراها أمامي فأعيشها، فتأخذ وقتها ثم تهدأ شدتها، وأعود لأمارس الحياة ثانية بشكل أفضل.

 

في المرات الأولى تعلمت أن أسمي ما أشعر به باسمه، وأن أتحدث عن مشاعري، حكيت ما جعلني أريد البكاء إلى حد النحيب، ولكن ملامح وجهي كانت تخذلني، عليها تلك الابتسامة التي لا تفارقها، كنت أقاوم وأقاوم حتى لا يبدو على وجهي التجهم أو البكاء فأجعل الابتسامة أوسع وأتحدث عن آلامي بسخرية وأضحك، ثم أحاول السيطرة على شفتي التي تتدلى لأسفل ودموعي التي تحاول أن تخونني وتتسرب من عيني، رغم ألمي الشديد الذي زاده إصراري على حبسه. حتى انفجرت في البكاء في إحدى المرات. وكانت هذه هي لحظة ولادتي من جديد، حيث عدت أشعر من جديد وأسمح لمشاعري بالوجود.

 

تعددت دوائري الآمنة، وتنوعت ما بين جلسات المتخصصين الفردية ومجموعات المساندة والدعم النفسي، سواء المتخصصة لمجموعة يمرون بنفس ظروفي أو المفتوحة للجميع، والقائمة على التعبير بالحكي، التمثيل، الرقص أو الرسم. وتوجهت لدراسة المزيد حول تقديم الدعم النفسي والمشورة، حتى أصبحت أتشبث بإحدى يدي بيد من سبقوني في هذه الرحلة، وأمد يدي الأخرى لمن يريد التشبث بها. ونمضي جميعًا، كل في رحلته الخاصة في سبيل فهم أكبر لأنفسنا، وبدأت رحلتي التي أعلم جيدًا أنها سوف تستمر حتى آخر أنفاسي.

 

غيرني التلامس مع أعماق الآخرين. غيَّر في أفكاري وآرائي المتشبثة في بعض الاتجاهات، وجدت أن كلنا متشابهون إلى حد كبير. لست وحدي من أشعر هكذا، لست وحدي من مررت بكذا، لست وحدي على الإطلاق. في كل دائرة من هذه الدوائر كنت أشعر بطقس روحاني جميل، يبدأ بإغلاق الدائرة ولا ينتهي عند فضها. تواصُل يحدث بيننا فى بُعد أعمق من الكلام. تواصل روحي يجعلنا نجدهم بداخلنا فيما بعد. وبالطبع تعمقت بعض العلاقات لتمتد لصداقات من نوع مختلف وأكثر راحة.

 

علمت أن المشاعر هي حزمة من الأسلاك الكهربائية الموصولة بزر واحد، إذا أردت إطفاء أحدها تنطفئ معها الحزمة كلها. فلن تتمكن من الشعور بالسعادة ولا الراحة إذا كنت لا تريد الشعور بالحزن والخذلان. فبدأت أعترف بمشاعري التي كنت أرفضها وقبلتها. حكيت وبكيت ثم هدأت وواصلت الحياة. وأصبحت أغادر هذه الدوائر الآمنة وأنا أشعر بالراحة، أذهب إليها لأفرغ ما في جعبتي حتى لا تنفجر من امتلائها بما لا تتحمله. ثم أغادر وهي شبه فارغة، مستعدة لتقبُّل وتحمُّل المزيد من مفاجآت الحياة.

المقالة السابقةالمرحاض قصة حب
المقالة القادمة10 أمور عليكِ معرفتها قبل زيارة الطبيب النفسي

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا