فقط.. كنت أحتاج أن أُدلل

644

 

بقلم/ كارين عزت

 

“لم أشعر بالوحدة يومًا وأنا بمفردي، فأنا جيدة برفقة نفسي.. ولكني شعرت بأضعاف هذه الوحدة وأنا برفقة أناس لا يفهمونني. وأجدني أغرق في بحر من الكلمات التائهة التي لا أستطيع صياغتها، عندما أقضي يومي في مكان وأنا أشعر الوقت الأطول بأني غريبة عنه ولا أنتمي إليه، ومع أناس قد أكون أحبهم ولكنهم ليسوا مثلي، ثم أعود إلى منزلي لأجدني أشعر باغتراب أعمق.

 

فالوحدة هو أن تنعزل عن الجميع، وتذهب لتبحث لنفسك عن طريق مجهول تحفره وتتحدد ملامحه مع الوقت، وكأنك تسلك الصحراء ولا توجد أي آبار على مرمى بصرك.. فقط سراب يعشمك بين حين وآخر أنك اقتربت من الوصول لنقطة راحة، وإذا به سراب.

 

هو ثقل تبرير أفعالك وشرح دوافعك باستمرار، وإلا ستبقى غير مفهوم، عندما تضطر أن تواجه قراراتك بمفردك.. عندما تدرك أن عليك سلوك الطريق بمفردك. ألم يكن هذا قرارك واختيارك من البدء؟ عندما يصبح حتى تكوين صداقات وعلاقات جديدة أمر مرعب، لأنك متروك بآثار جروح قديمة تحاول لملمتها، ومخاوفك تبتلع كل حماسة أو بوادر شغف داخلك.

 

نعم، إنها الصرخة العميقة للاحتياج للمشاركة.. نعم منشور هذا الأسبوع ليس بمبهج، لأني لست سعيدة وغير مضطرة أن أكون هكذا دائمًا”.

 

لقد كتبت هذا المنشور على صفحتي على الإنستجرام، ولكن باللغة الإنجليزية، مرفق معه صورة كئيبة لطريق طويل مظلم في غابة مخيفة. كان ذلك في إحدى الليالي الكئيبة، وأنا أبكي بحرقة في غرفتي في شهر مايو، بعد عيد ميلادي ببضعة أيام. ذلك الوقت من العام الذي تحوَّل إلى وقت مخيف بعض الشيء ومؤلم بعضًا آخر، فتذكرت عندما كانت أكبر مشكلاتي مع موعد عيد ميلادي أنه في منتصف امتحانات آَخر العام، وتمنيت لو عادت تلك الأيام، لربما تلهيني عن هذه الأفكار والمشاعر المؤلمة.

 

كنت ليلتها أشعر بكل كلمة كتبتها، ولأول مرة أشعر بذلك الاحتياج المُلح لمن يشاركني غموض الحياة وتحدياتها. وعلى الجانب الآخر ينتابني ميل غريب للهروب من أي علاقات عميقة، حتى مع أصدقائي وأهلي، وكأني أحاول الاختباء في جحر بعيد عن أعين الكل.

 

لم ينتهِ الأمر عند هذا المنشور، وبعض الدموع الأنثوية التي تتفجر فجأة وكأن العالم انهار من حولها. استيقظت اليوم التالي وأنا مضطرة لأن أمارس حياتي، فأحاول استعادة نشاطي في “الويك إند” ليعطيني بعض الدفعات لأسبوع آخر، مثله مثل باقي الأسابيع. كان من أقسى الأسابيع، كنت أشعر بكل الأسئلة الوجودية وبعبثية الحياة، راودتني أفكار الاستقالة والسفر، كهروب بالطبع، كنت أبحث عن أي منفذ لي بعيدًا عن هذه الحياة المملة.

 

وإذا بجسدي -كعادته- يستجيب لذلك النداء للراحة الذي حاولت تجاهله، فلقد تعودت منه على ذلك، فهو دائمًا شديد الحساسية لحالتي النفسية، فقط إن استمعت له. وإذا بي أستيقظ يوم خميس كعادتي لأنهي الأسبوع في العمل بالفُتات المتبقي من طاقتي في ذلك الأسبوع، لأستعد لآخر وهكذا.. ولكني استيقظت على وجع غير محتمل في بطني. ظللت أصارع معه ذلك اليوم كله، حتى انتهى اليوم بي في المستشفى، ومن حولي جمعٌ من أصدقائي وأهلي وأقاربي ورسائل لأناس يطمئنون على صحتي، ومنشور نشرته إحدى صديقاتي تجمَّعت فيه محبة أناس قريبة وبعيدة.. فلقد كانت عملية بسيطة، مجرد “الزائدة” ولكنها كانت قناة ممتازة لإحاطتي بهذا الكم من الحب الدافئ من جديد.

 

وفي الأيام الأولى بعد عودتي المنزل، اختبرتُ إحساسًا جديدًا من الاحتياج لمن حولي لتسديد معظم حوائجي الأساسية، أحتاج لمن يساعدني أن آكل ولمن يقودني لأذهب إلى دورة المياه، وما أدراك والاستحمام! فها هي مأساة من نوع آخر، ولكني وجدتني مغمورة بحب واهتمام حقيقيين من كل من حولي، فوجدتني أمام أصدقاء بمثابة إخوة وأخوات، إحداهن تقرر البحث بكل طاقتها لتحضر لي الكنافة بالمانجا التي قلت إني أشتاق إليها وأنا تحت تأثير المخدر، وإحداهن تأتي لقضاء اليوم معي وقت خروج أمي للعمل، وأخرى تأتي من المطار مباشرة إليّ فقط لتطمئن عليّ وتقضي بعض الوقت معي. وآخرون زيارتهم توجع بطني من شدة الضحك وعدم القدرة على السيطرة. وأخرى تأتي لي بزرعة عليها “أنتِ محبوبة!” وكأنها سمعت صوت طفلي الداخلي الذي كان يصرخ قبل أسبوع ويقول “اتركوني وحدي.. لا أحد يحبني.. أريد أن أهرب حيث لا أحد يعرفني!”، ويشعر بضآلته في ذلك العالم الضخم. وآخرون لم أكن أراهم من شهور، ولكني رأيت محبتهم الحقيقية في ذلك الوقت.

 

تحوَّلت الطفلة الباكية التي كانت تحاول الاختباء والهروب من الناس منذ بضعة أيام، لطفلة منطلقة وسعيدة، بأنها قد دُللت من كل مَن حولها. وكأن صدق محبتهم أذاب كل أسوار حاولت أبنيها وأحاصرني فيها لكيلا يصل إليَّ أحد. ولم يفوِّت الانطوائي الذي بداخلي تلك الفرصة، بل نال أيضًا نصيبه من أوقات الاختلاء بالنفس والقراءة والكتابة، مما أعاد شحن طاقتي النفسية التي كانت في أشد الحاجة لمثل هذه الأوقات.

 

نعم.. لكل منا مواسم يحتاج فيها فقط أن يُدلل، وكأنه يصرخ ويقول “حبوني زيادة شوية”، قد يتظاهر بالانسحاب، وقد يختار الوحدة كخِل وفِي له ويحاول التصالح معها، ولكن في أعماقه يحتاج لحب دافئ أصيل يذيب تلك الأسوار الجليدية التي يختبئ وراءها.

 

المقالة السابقةكحل وحبهان.. وصفة الجمال والتذوق
المقالة القادمةأنا قادمة من هناك
كاتبات

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا