عن علاج الاكتئاب بوهَج البحر و”شدن”

612

انتهتْ الرِحلة.

هكذا ببساطة يتركني البحر لينقذ شخصا آخر من الغرق.

لن أخوضَ في وصف الزرقة الخاطفة ونور الصيادين الآن، لكنني سأسعى لشُكره فيما بعدُ من بعيد.

حين دعتني صديقتي لقضاء يوميْن أفكُّ فيهما عباءة الحزن، حاولتُ أن أنفض التوقعات كي لا تؤذيني، كي لا أنتظر الكثير فلا أجد شيئا، كي لا يقتنصني الحزن بطبعه، حين أحاول التمسك بالقشة الشهيرة، وسافرتُ.

وهناكَ انتميتُ للَّحظة.. ساءني أن رقيةَ ليست معي، لكن “شدن” ابنة صديقتي منحتني بهاء وجود طفلةٍ في الجوار، تراوحت مشاعري بين رضا وحزن غير مبرر ودهشة.

كان لا بد لهذه الرحلة أن تأتي، وكان لا بد أن تأتي الآن، كان لا بد أن يمنحني الله شيئا، وأنا أنهزم كل يومٍ في نفسي، لن أقول أنها رحلة العمر أو أن سعادة الحياة كلها ملأتني، لكنني فيها بدأت أتعرف من جديد إلى السماء، نظرتُ إليها بعد سنوات كدت أنسى فيها أن هناك نجومٌ فوقنا تهيم، وتحتفظ لنا ببعض المراهم الشافية، هناك تأكدتُ أنني ربما لن آخذ معي بعد الآن رداء البحر في الترحال نحوه، لأنني كائنٌ برمائي، خط تماسِه مع البحر هو رؤيته من بعيد أو بلّ أطرافه بالماء وغسل عينيه ببياض موجه المترامي بقوة.

افتقدتُ ابنيَّ لكنني سعيتُ لكظم إحساسي بالتهام يومين دونهما.

الملاحات على الطريق تعيد إلى الذهن صلابة القلب، جموده وانهزامه، بياض الملح فيه ثابت لا يذيبه الماء، لكنني لن أعيش كالملاحات، “ينشع” مني الحزن ولا يذوب، سيتلاطم داخلي الموج ويضرب بعضه ببعضه حتى تزول آثار الهمِّ.

هل أتحدثُ بتلك التفاؤلية مؤقتا تأثرا بالبحر وشدن؟

لا أدري، لكنني أقتصُّ لساعات الحزن على الأقل، بكل لحظة نور تهبُّ على روحي الغامقة.

أهمَّ ما ربحتُه هنا كان “هالة”.

أستطيع القول الآن أن لديَّ صديقة جديدة، لم نكن صديقتين قبل أن نتسامر حتى الفجر، نشاهد فيلما قديما لإيمان البحر درويش، ونضحك على كل شيء، نشرب الكثير من القهوة التي شربتها هي بإمرتي، والكثير من “أحمد تي” الذي شربته أنا بإمرتها.

“مفيش أحلى من أحمد تي”.. هكذا تقول في فخر، وهي تعرّفني عليه.

ضحكتُ وهالة من عصارة القلب، وكأننا نفعل الضحك، نفعله بإتقان يمحو غبار الضيق والمشاكل والسبات.

جلسنا على السطح، ونظرنا نحو السماء، لا أدري متى كانت آخر مرة أبصر فيها النجوم، أبصرها بصدق لا مجرد رؤية عابرة.

القاهرة تقهر كل من فيها، هكذا قلت.

وعلى الرمل الفاتح تشير هالة للا شيء، وتقول: “الجرَّاية أهي.. ماتخافيش منها”.

أكتشف حشرة شفافة تشبه العنكبوت تجري ثم تتوقف لحظات، ثم تجري من جديد.. لكنني لم ألتقط لها صورة لأنها لن تظهر على الإطلاق.

وعلى الرمل الفاتح، ركضتُ خلف شدن، وقِسنا آثار قدمي وقدمها الصغيرة، وجمعنا بقايا القواقع الصغيرة، أخذت شدن بعضها، وخبأت بعضها الآخر كي أعطيه لرقية حين أعود.. كي أمحو آثار انسحابي عنها ليوميْن.

أنا الآن في القطار الذي لحقتُ به قبل انطلاقه بأربعة دقائق، لم أشعر برعب عدم اللحاق بالقطار للدرجة التي أعرفها في نفسي، ربما….

ربما لم يكن قرارا خاطئا أن أبتعد قليلا عن عالمي.. لأعود.

المقالة السابقةوإني أحبك جدًا
المقالة القادمةأجمل عبارات عن بيت الجد والجدة: طعم الحنية والدفا
كاتبات

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا