يأتي رمضان تلك السنة وانا أحمل أمنيات عدة بأن يبدو مختلفًا ولو قليلاَ عن سابقيه، أو أن أبدو أنا مختلفة أكثر عما كنته.. في النهاية أريد لي رمضانًا يشهبني أكثر، وأريد له أنا أخرى تشبهه وبها من روحه ولها من رائحته.
لو كان بمقدوري استحضار رمضان يخصني، لتمنيته شتويًا لا يعرف الآيس كريم تحليةً ولا توضع على موائده عصائر باردة، ولم تُكتشف فيه إمكانية الخلط بين الكنافة والمانجو، له سحور عامر بدفء الأغطية التي أختفي أسفلها ولا أشبع بعد لقيمات قليلة بسبب الحر الذي يفقدني شهيتي دائمًا كما الآن.
سأستحضر رمضانًا له رائحة كنت أميزها قديمًا وضاعت مني، لا أدري لماذا لم ترحل معي حين انتقلت لمنزلي الجديد وضلّت الطريق عن أنفي. كنت أعرفها والتقطها فور قدومه وكان شرح شعوري بها لمن حولي صعبًا.. صياغتها في كلمات كانت شيئًا عجيبًا، فهي لا رائحة طعام ولا رائحة ياميش ولا قمر الدين.. رائحة ليست من صنعنا، أصدق في كونها رائحة ربّانية وبها حقًا من نفحات الله.
اقرئي أيضًا: شكرًا يا الله.. لأنك الله
سأستحضر رمضانًا أرى فيه زينته من حولي، فحيث أقطن لا أشعر برمضان ولا بفرحته، لا أنوار ولا فوانيس متدلية من الأسقف ولا مثلثات ورقية مقلوبة وملونة صنعتها الأطفال في حب، والأهم لا يدور مسحراتي لإيقاظنا فجرًا..هنا حيث الصمت الطويل يبدو رمضان باهتًا مثل بقية الأيام، هنا أفتقد مكوناته المحببة ولا ترى ابنتي رمضانًا.
سأستحضر رمضانًا لا يكون فيه الراديو الخاص بي معطلاً فلا يغيب عن إفطاري أذان المغرب بصوت الشيخ “محمد رفعت” وذلك التشويش المصاحب لصوته.. التشويش الذى يؤكد ندرة التسجيل وندرة الصوت وندرة تلك القشعريرة التي تتملكني وأنا أدعو بدعاء الإفطار على نبراته.
أما عني فسأستحضر اختلافي بأن أبدو أهدأ وذات بال طويل في المطبخ، أحاول أن أبادله الحب ولا أكره وقفتي الخاملة فيه، لن أدّعي الإبداع ولن أتحوّل إلى شيف عالمي للحلويات الرمضانية قاتلة السعرات.. فقط سأحب أن أصنع قوائم طعام أستريح لطبخه ولا يُرهقني في هضمه لاحقًا، فأذهب إلى الله في تراويحه متخففة من سوء الهضم وثِقل النفس.
سأستحضر اختلافي هذا العام بأن أقرأ في قرآني تدبّرًا بدلاً من قطعه ركضًا بلا إحساس أو تأمل فيه، سأعزلني عن مارثون القراءة الشهير ولن أجيب على سؤال “إنتي في أنهي جزء؟ّ”، حتى بيني وبين حالي لن أحثني على السرعة في ختمه، ولن أرسم الجداول التي تساعدني على إنهائه أكثر من مرة على مدار الشهر.. ما بيني وبين كتابي المقدس ليطلع عليه الله وحده.
سأستحضر اختلافي في تلك الأيام بأن أصدّق في جملة “اللهم إني صائمة” فعلاً لا قولاً، فلا أنفكّ أنهض من أخطائي بأن أزيل عنها الذنب بتلك الكلمات التي أرددها بحفظ فلا أعنيها.. سأحاول أن أجعلها تختفي تمامًا من أحاديثي بصد نفسي ولساني عن اللغط الفاسد، وإن فشلت في لحظة هفو بشرية سأدعو الله بصدق لمسامحتي إيمانًا في أيام رحمته الواسعة.
سأستحضر اختلافي بأن أخلق لي مسافة بيني وبين كل طابور الدراما وزحامه، قد أجلس أمام التليفزيون قليلاً بدون السماح له بابتلاعي فأغيب حتى عن نفسي وأفقد ذلك الرباط الذي بيني وبين رمضان وروحانياته.. سأسير في ركب المبتعدين عنه بالانشغال بأمور أخرى وليس شرطًا العبادة، لألوذ بصحبة أسرتي ومتابعة عملي وأوراقي وكتبي.. أي شيء لا يجعلني أندم لاحقًا على وقتي المُهدَر.
سأستحضر اختلافي بأن أوسّع الدائرة قليلاً وأرى بضعة وجوه جديدة على مائدة إفطاري، وقد أحل أنا الأخرى وجهًا جديدًا على موائد رحبة طيبة للمرة الأولى، نحدث تلك الجلبة المميزة لموائد الإفطار الشهية.. تصطك الشوك والسكاكين ويصب الفرح في الأكواب ونتسامر كثيرًا ضاحكين، فحتى مع تعب وإرهاق تحضير الطعام ثم تعب إزالة آثاره هناك شيئًا ما مختلف لموائد رمضان يجعلها تستحق.
وأخيرًا سأستحضر نيّتي أولاً لأخلق رمضانًا مختلفًا لي، قد أفشل وقد لا أحقق شيئًا، وقد يصير كل ما أتمناه من نفسي هذا العام أحلامًا واهية لن أطبّقها، وأخبر نفسي عندما يأتي رمضان القادم لن أضيّع فرصتي أبدًا، ولكني في كل مرة أتشبث أكثر بتلك الصورة التي أتمناها لنفسي في رمضان، وأتشبث بالله أكثر في أن يغيّر ما فيّ.