طـوق “نـ”جاة

324

منذ أكثر من عام وأنا أعاني من اكتئاب ما بعد الولادة لأسباب عديدة، بعضها طبيعي والآخر “فوق الفظيع”!

أحد تلك الأسباب كان أنني “تهت مني” وذلك بالنسبة إلى شخصية مزاجية وعاطفية مثلي عبئًا إضافيًا أنا في غِنى عنه، بل إن إيجاد حل له كان جزءًا من العلاج الذي قد يجعلني أؤجل انهياري العصبي بعض الشيء. ومن ضمن أسباب انزعاجي كان عدم قدرتي على ممارسة الكتابة التي أجد فيها نفسي، وكثيرًا ما أستخدمها كوسيلة تفريغ لشحنات سلبية تكدست على صدري.

 

كان ما يؤرقني هو وجود أفكار بالفعل بداخلي صالحة للكتابة وتبحث عن منفَذ للخروج، غير أن الصداع المستمر وطَرق الأفكار الباب في أوقات غير مناسبة كان كافيًا أن تهرب الكلمات بلا رجعة، مع ترك غُصة في الروح وشعور بانتقاص جديد تتبعه ضرورة مُلحّة لإعادة الشَحن، لكن للأسف أن تكون أمًا فهذا يعني انتهاء عهد وقت الفراغ والخصوصية و”سيبوني لوحدي”، أضف إلى ذلك الزن الرهيب مع قلة النوم وتغيرات الهرمونات، فتكون النتيجة مثل حَلِة بخار مضغوطة تصدر صفارات الإنذار في انتظار أن تنفجر بأي لحظة.

 

ظلت الحياة هكذا إلى أن أتت “نون” في طريقي بالصدفة.كنت أقرأ مقالات لصديقات وأحببت المكان بشدة حتى وددت لو انضممت إلى فريق العمل، فأرسلت إليهم وكان إيمانهم بي هو القشة التي أنقذتني، فتعلقت بها بكل ما أُوتيت من شغف وقوة.كنت في أشد الاحتياج إلى مُتَنَفَّس للروح خارج إطار “الرضعة والترجيع والبامبرز”. كنت أفتقد “ياسمين” وأخشى إن تجاهلتها أكثر من ذلك أن تختفي بلا رجعة.

 

وقتها لم أكن واثقة من أنها ما زالت هناك تنتظرني، لكن وحدها التجربة خير إثبات، حتى وإن تطلب الأمر الكثير من التنقيب والبحث والمزيد من الإرهاق وقلة النوم. غير أنه سرعان ما اتضح أن وجود مكان للكتابة ما هو إلا أول وأهم خطوة، بينما ممارسة الفِعل نفسه “حاجة تانية خالص”، إذ كانت وما زالت من أكثر العمليات إرهاقًا، خصوصًا مع محاربة وحوش مزعجة مثل “التسنين والمزيد والمزيد من الزن والزهايمر المُبَكِّر” لكنها -الكتابة- أيضًا من أقرب الأفعال للقلب وأشدها متعة وخصوصية وأُلفة، بل إنها أصبحت الوقت المستقطع الوحيد الذي يخُصني أنا نفسي لا الزوجة ولا الأم.

 

وبالرغم من أنني كثيرًا ما تأخرت في تسليم مقالاتي بسبب الصداع أو “أصل بنتي عيانة” أو… أو… لكن”نـون” كانت دائمة التَفهُّم والمساندة. “نون” ليست فقط مجلة عن المرأة، بل أسرة تعلم فعلًا صعوبات الحياة التي تواجهنا نحن النساء بمختلف اهتماماتنا واختياراتنا، فتوفر لنا السَنَد والوَنَس، ما يؤهلنا إلى المثابرة والاستمرار على الرغم من كل شيء.

 

“نون” كانت وما زالت بالنسبة إليّ “ن”ـافذة على الروح التي كادت أن تُغطيها الأتربة لذلك وبمناسبة عيد ميلادها الأول، وددت أن أُقدم لأصحاب المجلة ولكل فريق العمل الشكر والامتنان لمنحي مناخًا يُشبهني، وفرصة رُبما دونها لكنت انتهيت تمامًا.

 

فيا ليت الجميع -في زمن لم يَعد يعرف الطريق إلينا فيه إلا الموت- أن يمدوا يد العون لآخرين، إذ رُبما صرتم لهم -دون أن تدروا- طوق “ن”ـجاة.

المقالة السابقةأنا أنتمي
المقالة القادمةإحنا صغيرين أوي يا سيد
امرأة ثلاثينية متقلبة المزاج، أعشق الرقص على السطور كتابةً، أُحب الفن بمختلف أنواعه وأعيش عليه. والآن كبرت وصار عليّ أن ألعب في الحياة عشرات الأدوار طوال الوقت، لأستيقظ كل صباح أُعافر حتى أستطيع أن أُحاكي بهلوانات السيرك فأرمي الكُرات المُلونة بالهواء ثم ألتقطها كلها في آنٍ واحد.

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا