سيدة الصبر

1153

إلى صفية طه.. إلى كل بطلات الكيماوي.

“في الحلم أراني بساق واحدة، أسير على حافة الحياة، كلما هممت بالسقوط سندني ظلي، مع الوقت يضيع الظل وأراني مجرد شبح”.

في الصباح أتمدد على السرير الأبيض، تكفنني الأردية البيضاء، أراقب قطرات الكيماوي وهي تسقط في الأنبوبة الرفيعة المتصلة بأوردتي وتسير ببطء شديد، أنتظرها بغصة كمن ينتظر الموت ولا يأتي.

تسقط قطرة.. قطرة، كنتف الثلج، فيتجمد معها الوقت وتُمحى الذكريات، سبعة وخمسون عامًا كأنها لم تكن كل قطرة تدخل جسدي تحرق جزءًا من ذكرياتي قبل أن تحرق السرطان اللعين، سبعة وخمسون عامًا من السعي والعمل والأحلام، من الانتصارات والهزائم، من الأمومة والحب، من فرحة استقبال الحفيد الأول، تُمحى في لحظة، كل شيء يختصر وكأنني رهينة تلك اللحظة محبوسة ها هنا منذ الأزل ولا مفر.

مع كل قطرة كيماوي يصبح جسدي أكثر هشاشة وروحي أكثر شفافية، أفقد كل شيء، الشعر والجلد والأسنان، ولكني أكتسب أكثر مما أفقد، أكتسب قدرات خارقة، أنا الآن أتحدث مع الموتى وأراهم.. اليوم رأيت أمي همست في أذني أنها اختارت لي اسم “صفية”، صفية المختارة للمرض والابتلاء، يتداخل الحلم بالواقع، تمتزج الرؤى ببعض، لا أعلم أين الخط الفاصل بينهما الحلم والواقع يتبادلان الأدوار كل ليلة بنبوءة جديدة أشد قسوة من التي سبقتها.

***

“في الحلم أراني أركض ولا أًصل.. أصرخ ولا أحد يستجيب، أرتفع لأعلى أصير هشة كدموع الأمهات”.

لقد تأخرت في إنجاب طفلتي الأولى، مرت اللحظات بطيئة، الأيام أصبحت متشابهة، سنة تلو الأخرى فشلت معها وصفات الأطباء، وأثبتت الوصفات البلدي عدم جدواها، حتى زيارات المشايخ والأولياء لم تؤتِ بثمارها، إلى أن جاءت اللحظة الحاسمة حين غفلة من يأسي حملت.

“أنا حبلى” أحمل في رحمي أحد أكبر أسباب سعادتي، وضعت طفلتي الأولى التي جلبت لي معها الفرح والحب أينما حلت، طفل تلو الآخر أصبحت أمًا لأربعة أطفال، منحتهم رحمي الحياة ومنحوني الأمل والسعادة والمثابرة، الآن أنا جدة لثمانية أحفاد أرى فيهم نفسي، أراني أتجدد فيهم، كل حفيد هو حياة سأحياها بشكل مختلف، ثماني نجوم متفردة أتوهج كلما نظرت في أعينهم.

أنا الآن في السابعة والخمسين “أنا حبلى” للمرة الخامسة، أحمل في رحمي أحد أسباب شقائي وتعاستي، يخبرني الطبيب أن رحمي تحمل ورمًا بحجم جنين في الشهر الرابع. الأمر لا يدعو للقلق؛ جراحة بسيطة نتخلص منه قبل أن ينمو ويبتلعني، لم تعد رحمي قادرة على منح الحياة لأحد.. فقد يسلبني الحياة.

***

“في الحلم أراني على حافة السقوط.. أتخفف من كل أعبائي، من كل ما يجذبني للأسفل، أمد يدي أسفل بطني أنتزع رحمي أقتلع أسناني تتحول خصلات شعري إلى فراشات تطير فترفعني معها لأعلى فلا أسقط”.

أنا الآن أتكيف مع الصمت والسكون وجرعات الكيماوي. الحياة المليئة بالصخب والعمل والسفر لا تتناسب والسرطان، لقد عشت سنوات عمري أتنصل من فكرة التكيف. أحارب في كل الجبهات وأنتصر وأحقق ذاتي، أراهن على نفسي في أي شيء وكل شيء، لم أخسر قط. أنا الآن مجبرة على الخضوع والصمت، أهدأ وأنظر للوراء، أتأمل كل هذا السعي والركض في الحياة، كل هذا العطاء وكل هذا الفقد والألم، أهدأ لأتعلم الصبر.

***

“في الحلم.. تأتي النبوءة خضراء على مهل، ينبت لي رحم جديدة، شجرة صبر صغيرة تمنحني وعدًا بالحياة”.

جراحة واحدة وخمس جرعات كيماوي على مدار هذا العام جعلت مني امرأة أخرى، عام كامل لا أعلم كيف انقضت أيامه ولا كيف رحل، كأنني كنت خارج الزمن، لا أعلم كيف نجوت من السرطان! في أي لحظة هزمته؟! في أي لحظة اعتقدت خطأ أنه هزمني؟!

إنني أحتاج إلى زمن طويل لأعي تلك التجربة، أستوعب حبال الوصل التي مددتها للسماء بالدعاء فعادت بالشفاء، أحتاج لزمن طويل كي أعي كيف تحولت المرأة التي كنتها إلى المرأة التي هي أنا الآن، “سيدة الصبر” التي لم أكن أعي أنها ها هنا في قلبي، هذه المرأة التي أصبحت ترى الأمور بعين البصيرة والحكمة، تترفع عن أشياء لم تكن لتتخلى عنها أبدًا.

المسافة التي قطعتها خلال كل تلك السنوات لم تكن سوى تمرين لتلك اللحظة، لحظة التخلي عن جزء حميمي من جسدي لأحافظ على الباقي، أعيد صياغة علاقتي بالآخرين وبنفسي التي لم أكن أعرفها من قبل، كيف يمكن أن نعيش هذا العمر دون أن ندرك ماهية ذواتنا الحقيقية؟ لقد منحني الله فرصة جديدة لأحيا برؤية مختلفة، بروح امرأة خلقت من جديد، سأرتب سنوات عمري الباقية بما يليق بتلك المرأة الجديدة التي كسرت تلك الصورة الهشة التي كنت أرى عليها نفسي وأعادت خلقي من جديد.

اليوم تمحى آثار قدمي من المشافي.. لا أثر لدموعي ودموع من أحب اليوم. لا أرى إلا الحب ووجه أمي من بعيد يحمل البشارة “سميتك صفية الخالصة من كل عيب، الناقة الغزيرة اللبن، النخلة الكثيرة الثمر”، تقترب مني أكثر تحتضني وتهمس “ولكل منا نصيب من اسمه”، فأبتسم وأطمئن.

المقالة السابقةلست مثالية.. ولن أكون
المقالة القادمةروتين العناية بالشعر الكيرلي وأهم منتجات العناية بالشعر الكيرلي
أمل طه
صحفية وكاتبة مصرية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا