دستة بنات

646

بسنت

أمي امرأة صعيدية الأصل والنشأة، لكن عندما تتحدث عن بهجة خِلفة البنات، لن يتخيل أحد للحظة أصولها الصعيدية المشهورة بتفضيل
الذكور وخلفتهم. وأظنني ورثت منها هذا الأمر بشدة. تقول إن خلفة البنات رزق، و"يسعده زمانه من خلف بناته قبل صبيانه".

أنجبتنا أمي ثلاث فتيات كما كانت تتمنى، تخبرنا أنها تمنت من الله في كل حمل لها أن يرزقها أنثى، أمي التي لها من الإخوة الذكور ما
لها، كانت تصلي لله مُلحَّة في دعواتها بأن يرزقها إناثُا، يصبحن السند والعون لها ولأبيهن ولبعضهن بعض. كانت محظوظة وتقبل الله
صلواتها، والحقيقة منذ أن وعيت على العالم ولم أعرف سندًا حقيقيًا في حياتي إلا أخواتي البنات.

كبرنا وتزوجت أخواتي واحدة تلو الأخرى، ولحكمة الله لم يرزقن سوى بالذكور، في كل حمل كان أخواتي وأمي ينتظرن صبية، وكان
يعطيهن الله ذكرًا، حتى تزوجت أنا وتمنيت من كل قلبي أن يرزقني الله بصبية جميلة، وحقق الله أمنيتي، في الحقيقة كنت ولا زلت أتمنى
أن أنجب "دستة بنات"، حسنًا يمكن اعتباره تعبيرًا مجازيًا عن رغبتي في أن يرزقني الله بكثير من الإناث.

هل تبدو هذه الرغبة جنونية للبعض في زمننا هذا؟
هل يبدو إنجاب أنثى في وطننا ومجتمعنا المخيف فكرة صائبة؟ هل أنا أم أنانية في أمنياتي؟ هل أستطيع تربية الإناث والحفاظ عليهن من
شرور العالم.. الله وحده هو القدير الذي يمتلك إجابة كل ما يدور في ذهني.

حتى الآن لديّ "فريدة"، وتكفيني عن العالم، ولكنني حين أختبر فرحة أو وجعًا، وأجد أخواتي يظللن عليّ بكل ما أوتين من قوة وحب
وحكمة، أجدني أدعو الله بإلحاح أن يرزقني أخوات إناثًا لفريدتي الصغيرة، أن يرزقني زهورًا لا تذبل حتى وإن كانت ستنبت في وطن
وزمن كزمننا. أتمنى أن تكبر حديقتي وتتسع وينبت فيها زهور على هيئة بنات.

تخبرني صديقة عمري بأنني مجنونة؛ من لا يعشق خلف الذكور؟! السند والقوة الحقيقية وامتداد النسل والذِكر في الدنيا بعد رحيل الأب
والأم! والحقيقة أنني لا أعرف تحديدًا من أين جاءت هذه الفكرة لأذهان الناس، لا اعتراض على هبة الله ورزقه، بل إن قصر وتخصيص
القوة والسند والحماية بالذكور هو أمر غريب ومرفوض تمامًا، ولم يُذكر في أي ديانة سماوية.. كم من ذكور ذهبوا بذكرى ونسل آبائهم
للنسيان! وكم من إناث كن فخرًا وعزًا لأسرهن!

لماذا أرغب في دستة بنات؟
رغبتي في إنجاب الإناث لا تجعلني أمًا أنانية أو كارهة للذكور، بالعكس، فأول اختبار حقيقي لأمومتي مررت به مع أولاد أخواتي
الخمس، ولكنني حين أسمع بإحدى الصديقات تحمل في صبي، أشفق عليها بالفعل، بقدر صعوبة تربية الإناث، فإن تربية الذكور ليصبحوا
رجالاً مشقة.

ولكنني أرغب في حضن دافئ يحتويني حين يبلغ الشيب مني مبلغه، أرغب في صديقة وفية وقلب يسع الكون وأكثر، فتيات يكنّ صحبة
طيبة تعينني وأعينها على الحياة وذكرى عطرة لي بعد الممات، أُذن تسمعني وأسمعها، كتف أتكئ عليها وتستند عليّ، نهر من الحنية لا
ينضب وطبطبة تخفف الوجع وثقل الحياة.. وأكثر من كل ذلك أرغب في أن تكون بناتي هكذا بعضهن لبعض، سند وقوة، الحقيقة أنني
بإنجاب الإناث أضمن لأطفالي أمانًا وحضنًا وسكنًا لا يغيب بعد رحيلي، أضمن لهن ما أعيشه الآن وأحمد الله عليه مع أخواتي.

أعلم أنني إن رزقني الله بـ"دستة بنات" سيصبح على عاتقي حِمل ومسؤولية تربيتهن في مجتمعنا هذا، أن أحميهن من الوصم بأي صفة،
ومن التحرش والوجع والخيانة والانحطاط وأشباه الرجال.. ولكنني على يقين أيضًا أن لا تحمي الأنثى سوى أنثى مثلها.

بيت يخلو من مولودة أنثى هو بيت جاف لم تنبت فيه ورود، صحيح لم تقتصر صفات الرفق والحب والاحتواء على الإناث، ولكن حين
يتعلق الأمر بالابنة، ستجد قلبها دومًا في منزل أبيها، مهما كبرت أو سافرت أو تزوجت وأصبحت في آخر بقاع الأرض، أكاد أجزم أن
الأنثى حين تولد لا ينقطع الحبل السري الذي يربطها بأمها أبدًا، ولكنه يظل موجودًا غير مرئي، يكبر ويتصل بكل أفراد الأسرة، الأب
والأخ والأخت، يحمل حنينًا لا ينقطع وحبًا لا يقل، وتظل زهرة، رحيقها ينعش المنزل ويظلل الأسرة مدى الحياة

المقالة السابقةاحضني أنوثتك يا “فريدة”
المقالة القادمةريحة صواني مفحفحة.. وكوستاليتا مشوَّحة
باسنت إبراهيم
كاتبة وصحفية مصرية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا