تضيق فأبحث عن هيفاء

474

أنا مبقوقة جدًا.

خدمة الإنترنت معطّلة لخلل في النظام، نتصل بهم على التوالي: يصرخ فيهم أخي الأصغر أنه لا يعيش في الصومال، وأنه حتمًا خدمة الإنترنت هناك أحسن من هنا بكثير، وتطلب أختي الكبرى أن يحضر لها موظف خدمة العملاء رئيسه، فيخاطبها بكل برود أنها مشكلة يومين وتتحلّ، ليزيد صراخها ويستحيل كونيًا خارجًا من النوافذ والستائر بأن المشكلة دامت أكثر من شهرين. أخاطبهم أنا، ولأني لا أعرف كيف أصرخ فأبقي صوتي منخفضًا وأشكر الموظف كثيرًا، إذ يلوح لي إرهاقه الثقيل من صوته.

 

“الحالة تعبانة يا ليلى”، الجملة السابقة من غناء فرقة “مشروع ليلى”. لهم أغنية أخرى، تتعب قلبي جدًا، يقولون فيها “مسكتيلي إيدي ووعدتيني بشي ثورة. كيف نسيتي؟ كيف نسيتيني؟” توقفت عن الاستماع للفرقة كلها من الأساس، لأن الألم تجاوز المعنوي لنغز مستمر في صدري، نغز حقيقي، لا تنفع معه المراهم أو المسكنات. متى ضاع منا كل شيء؟ لماذا صمتنا؟ متى لملمنا أجنحتنا وكفكفنا دمعنا وقلنا إن كده كفاية؟ لماذا قلت أنا “كده كفاية”؟ ولماذا لم أعد قادرة على النزول؟ متى تمكنّ رُهاب الأماكن المفتوحة مني؟ كيف نسيتي؟ كيف نسيتيني؟

أنا تعبت جدًا.

 

أعمل حاليًا على كتاب مؤلم جدًا. يتحدث عن الصدمات “التروما” والخلل النفسي التالي لها. يسفلتني الكتاب تمامًا وآتي على الساعة الواحدة صباحًا لأطلب الغوث، أي غوث: فيلم حلو، مزيكا، صور جميلة. لا يسعفني الإنترنت، فأبحث في مخزون الكمبيوتر. كلها أفلام معادة. ماذا عن الموسيقى؟ لا موسيقى جديدة، وتطبيق “سحابة الصوت” لا يعمل. وبعدين؟ أشاهد فيلمًا اسمه جميل جدًا: “الحنين إلى الضوء”. افتتاحيته مبهرة، يتحدث عن صحراء أتاكاما في تشيلي، التي جوّها بلا نقطة رطوبة واحدة، ليصبح من أنقى الأجواء على الأرض، فبنوا فيه أكبر تليسكوب على الأرض، أيضًا. وعماذا يتحدث أيضًا يا روز؟ عن سجناء الرأي المعارض للديكتاتور بينوتشيه.

 

ليه؟ ليه يا رب ليه؟ يمضي الفيلم في وصف معاناة السيدات، اللاتي حُبس لهنّ زوج أو أخ أو ابن ولم يعد. يقولون إن الصحراء ضمت رُفاتهم، حيث دُفنوا على عجل هناك. يبحثن. وجدن مقابر جماعية بالفعل. لكن الأسوأ لم يأتِ بعد: وجدن أجزاء من رُفات أحبائهنّ. القصة مؤلمة جدًا، لن أستطرد فيها، فالألم عمّ الكل، وأصبح أكثر مجانية من هواء نظيف. لكن، على عاتق السيدات دائمًا، تقع مهمة كشف الحقيقة. الستات، المضيئات، والحالمات، والساعيات، حاملات الألم، الحالمات بالنور، المبتسمات، الجميلات.. الجميلات هنّ الجميلات يا عم درويش!

 

في مركز النديم لمواجهة وعلاج ضحايا التعذيب يقع مكان سيدة عذبة جدًا، د. منى حامد. سيدة شديدة الجمال والتواضع، مهيبة بعلمها وتعاملها السمح. يذهب إليها أغلب أصدقائي، لأنه كان لا بدّ من مخرج وإلا جُننا جميعًا. تصف لهم علاجات سلوكية، ومع بعض منهم أدوية. تأتي الأدوية بنفع فعليًا، ويتقدمون في حياتهم لمربعات ودوائر جديدة. تحنو عليهم. يصلني حنانها عابرًا أجسادهم وأرواحهم فأتدفأ به. أحببتها جدًا وأتمنى لو نلتقي يومًا ما. الجميلات هنّ اللطيفات، الملطّفات.

 

أستيقظ من نومي متعبة جدًا. استغرقني الأمر سنوات لأصل إلى قدرٍ من الصراحة مع القارئ، لأكتب بكل أريحية: “أستيقظ أريد تقيؤ روحي”. لا يهمني منظري أمام الخلق، المهم أني أتحدث عمّا بداخلي.

 

أصحو متعبة، فلا أستطيع العمل. لا يفيدني المزيد من النوم لأنه لم يعد نافعًا معي. لا أتوجه إلى المطبخ رغم علمي أن أخي لم يفطر بعد. رغم كونه أطول مني، فهو لا يتحمس لفعل شيء في المطبخ إلا لو كان هناك أحد به. يحتاج إلى الونس، يبحث عنه. أحسّه وحيدًا. كونه الأصغر في العائلة جعله وحيدًا نوعًا ما. بسفر أمي وتوجّه بقية إخوتي كلٍ في سعيه الكوني، أصبحت شاشة اللاب توب صديقته الوحيدة تقريبًا. لو لم أتذكره بطعام أو شراب لما تذكر. وبالفعل، أصبح أكثر هزالًا ووجهه أكثر صُفرة.

 

أقول أستيقظ مثقلة، فأتجه لمدوّنة هيفاء القحطاني. هي مدونة من السعودية، صنعت لها عالمًا بذاته. تدوّن من 2008، أيام الصبا، فجاءت تدويناتها جميلة وبها بعض من نزق محبب. تكتب عن أكلات جديدة، تكتب عن إخوتها وكيف يتشاجرون دومًا، تكتب عن التجديدات التي أقامتها في غرفتها، فحمستني لدهان غرفتي أنا وأختي بلون جديد. تتحدث عن أمها الحائكة البارعة، صاحبة مركز لتعليم خياطة الألحفة، تأتيها الأمريكيات والأوربيات المقيمات بالسعودية ليتعلمنّ على يديها. أحببت حكاياتها جدًا خصوصًا أن أمي أيضًا تجيد الخياطة وأعمال الإبرة ولديها ماكينة تخيط غرزًا زخرفية. في التدوينات الأكثر حداثة، تكتب عن الوثائقيات التي تشاهدها، وعن موضوعات جديدة تتعلمها. أحب مدونتها جدًا لأنها تأخذني إلى عالم هادئ، ليس به قتل أو كهرباء مقطوعة أو مشاريع عبارة عن فيلة بيضاء ستذهب بنا جميعًا إلى الجحيم. أحب مدونتها لدرجة أنها تهدئني بعد استيقاظ مثقل وروح مخرّمة. أنا الآن أتابع تدويناتها من الأول، منذ 2008.

 

لهيفاء أيضًا حساب على الإنستجرام. في بداية اغترابي بسفر اضطررت إليه رغمًا عني، جئت بأرشيف حسابها كله وأخذت أقرأ التعليقات التي تكتبها إلى جوار الصور. الصور بارعة الحسن. تصوّر فنجان قهوتها، إلى جانبه كتاب وعلبة طلاء أظافر مثلًا، أو طبق به ثمرتي فراولة، وتكتب عبارة بسيطة مثل “كولاج يوم الأحد”. أحب هذا العالم جدًا، يجعلني أتخيل أنه بالإمكان عيش حياة غير هذه الحالية. تجعلني أمتنّ لكوب قهوة أو قنينة طلاء أظافر. تجعلني أهدأ، أكثر قدرة على التخيّل، أكثر امتنانًا. أنا ممتنة للرب جدًا، على نعمة وجود المدونات، وحسابات الإنستجرام، وهيفاء القحطاني. شكرًا لك يا رب.

 

ينغلق اليوم على محاولة للقراءة في كتاب مؤنس قرأته من قبل ليطمئن قلبي، أو محادثة هاتفية مع صديق عزيز تحمّل معي الكثير وما زال يتحمّل. أقرأ الأذكار وأدعو الله أن يرزقني نومًا هادئًا، فأحصل أو لا أحصل عليه، لكن اليوم ينتهي، وأنام.

__________________

موقع هيفاء الشخصي: أضغط هنا 

حسابها على الإنستجرام: أضغط هنا

المقالة السابقة10 أفكار للاستفادة من انقطاع الكهرباء
المقالة القادمةالعِكِر

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا