تبدأ حكايتها بعد ميلادها بقليل.. عندما بدأت تدرك وتعي مفهوم العلاقات. كانت ترى “بابا” هو الأمان، حتى أنها كانت لا تنام ليلاً حتى تتأكد أنه بالمنزل. كانت تؤمن أن “بابا” يستطيع أن يفعل أي شيء في الدنيا، فهو لديه عضلات قوية قادرة أن تحملها لأعلى مهما كبرت.
بابا هو من يستطيع أن يقود السياراة وهو الذي يعرف الطريق لجميع الأماكن. بابا هو أمان ماما ويعلم أفضل منها، فهي دائمًا تعتمد عليه في اتحاذ القرارات، بابا يستطيع أن يطبخ وينظّف المنزل ويكوي الملابس مثلما تفعل ماما. بابا لا يصعب عليه شيء كبيرًا كان أو صغيرًا. بابا دائمًا يقول لها أنّ أجمل ما فيها أنها ذكية ولمّاحة ومدبِرة مثلما كانت والدته! كانت ترى في “بابا” الأمان والراحة ومعه لم تقلق من شيء.
مرت مرحلة الطفولة المفعمة بالبراءة والتصديق وانتقلت لمرحلة الفهم والنقد، وهنا بدأت الطفلة تكبُر وتعرف أكثر عن الدنيا، وتعرف إمكانية الاختيار، مما ابتدأ صدامًا لم تتخيل كم سيمتد وسيشكل في شخصيتها. بدأ يظهر احتياجها للاهتمام والحب غير المشروطين في تصرّفها، وما توقعت أن تجده من مصدر أمانها، بدأت ترى جوانب أخرى في علاقتها ببابا، إذ وجدت أنها تحتاج أشياء تختلف عن ما يقدمه لها، فراحت تُعبّر عن ذلك بردود أفعالها الغاضبة والمتألمة أيضًا، لم تكن طرق تعبيرها مفهومة له ولم تكن ردود أفعاله يومًا مبررة لها، ومع كل هذا لم تتوقع يومًا أن مصدر أمانها سيتحول لأحد أعمق أسباب خذَلانها وجروحها الغائرة، ثم ندَبات دائمة شكّلت من صارت عليها.
لقد عاشت سنوات من عمرها وهي تستقبل رسائل تؤكد أنها “مش كفاية”، فهي لن تنجح في مستقبلها ما دامت لا تهتم بالدراسة بشكل كافٍ، هي ابنة عاقة وناكرة للجميل إذ تغضب وتعترض ولا تعرف الطاعة، هي صغيرة لن تفهم أبدًا كما يفهم الكبار. كم كان من الأسهل لو لم تأتِ للدنيا من الأساس، هي لا تفهم ولا تُقدِّر تعب أهلها، ولكن يومًا ما ستعاني مع أبنائها بسبب ما تفعل الآن… وغيرها من رسائل غير مقصود بها الأذى، لكنها اخترقتها بعمق، حتى آمنت هي الأخرى أنها هي سبب البلاء لمجموعة من البشر هم أسرتها.
تمنت لو لم توجد في هذه الدنيا من الأساس، تمنّت لو استطاعت أن تنهي حياتها البائسة، وقتها فقط سيصبح الكل سعداء بمن فيهم هي، وحين لم تتحقق هذه الأمنية سَعَت بطرق كثيرة لترضي بابا، حتى ترى في عينه نظرة تفهم أو تقدير. لم تنجح في التغيير في كل المرات، ولكن حتى في المرات التي شعرت أنها أرضته كان يأتي صدام جديد ليصرخ في وجهها “إنتي لسة مش كفاية”.
سمعت الرسالة الواضحة وهضمتها تمامًا، حتى أنها بكت وصلّت وترجّت الله أن يغفر لها كونها سبب إحباط لأهلها في الكثير من الأحيان، أن يغفر لها كونها ابنة دائمة التذمر والطلبات التي تثقل كاهلهم بها بدلاً من أن تكون عونًا، أن يغفر لها عدم تقديرها للنِعَم التي تَنعَم بها وتنظر فقط لما ليس لها، أن يغفر لها تذمرها على وجود سقف فوق رأسها حتى وإن كان “سقف في عِشّة”، أن يغفر لها تدخلها في قرارات “بابا اللي عارف مصلحتها وفاهم أحسن منها”، أن يغفر لها عدم تفوقها في الدراسة بل فشلها أحيانًا فيها، أن يغفر لها أفعالها العاقة التي طالما انتهت بدموع أمها وحسرة أبيها، أن يغفر لها كُرهَها لوجودها في هذا المنزل، أن يغفر لها غضبها منه هو ولومُه أنه خلقها في هذه الدنيا. وحينما كانت النتيجة هي ازدياد الأمور سوءًا علمت حينها أن أفعالها كانت أقبح من أن تُغتفر.
لحسن الحظ أو لسوئه أو لعدم وجوده أصلاً، لم تنتهِ القصة هنا، بل فصول أخرى أكثر صحة وقبولاً ونموًّا كتبها آخرون على صفحاتها، بل أكثرهم تشويقًا ومتعة هي التي كتبتها بيدين نازفتين واستطاعت من خلالها أن تمتلك قصتها وتخلق أحداثًا جديدة وأمانًا أمينًا تصالِح به روحها المحتضرة، إن وُجِد مجال للمصالحة.
ولكن جروحها ظلّت صاحبتها، وعلمت أن ما قاسته لن يُمحى يومًا، ولكنه سيظل معها يُذكّرها أن الدوافع الطيبة ليست كافية أبدًا، أن الكلمات أحدّ من السيف تصل للقلب وتجرحه بل تقتله، أن الندوب لا تختفي ولكننا فقط نتعود ملمسها وشكلها، أن الوعود الزائفة المتكررة تخلق قلبًا من حجر، أن الجروح لا تأتي فقط من تنمُّر الأصدقاء لكن أسوأها على الإطلاق نحصل عليه من تنمُّر خطوط دفاعنا الأولى، أن أسوأ أنواع الألم هو الموجِع الصارخ لصاحبه وغير المرئي للجميع في نفس الوقت، أن طول ليالي البكاء المليئة بالوحدة لا تشبه أي مدّة زمنية اختبرناها، أن الأهل قادرون على قتل أبنائهم بشكل يومي من دون قصد، أن الألم الممتد للروح لا يصمت حتى وإن اختفى سببه، أن الأجِنّة هم أجمل وأقسى المشاريع على الإطلاق، أن القدرة الجنسية ليست بالسبب الكافي لخلق آباء، وأن الشفاء طريق طويل والغفران هو أحد ذرّات الرمال الملقاة هناك.