الروقان والسربعة

814

بقلم: سارة سكر

روقان..

عشت طفولتي وسنين مراهقتي إلى وقت التحاقي بالجامعة، في مدينة من مُدُن الصعيد. ومَن يعرفني جيدًا يعرف كم أفخر بجذوري المغروسة في هذه المدينة! وإلى الآن أشعر بانتمائي لها. بلد هادئ، أهله طيبون كرماء.
وأكثر ما يميز هذه الفترة في ذهني هو (الروقان). ففي سنين التسعينيات، كان الناس يسيرون بهدوء في شوارعها، يُحيُّون بعضهم بابتسمات وهمهمات حين يتقابلون صدفةً. وفي الصيف، تجدهم يخروجون لشرفات منازلهم ساعات العصاري، يشربون الشاي بالنعناع، مُودِّعين شمس الظهيرة اللاسعة، ومستقبلين نسمات الليل الهادئة. والأطفال يخرجون إلى شوارعها يلعبون معًا، أو يتسابقون بدراجاتهم في شوارعها قليلة السيارات حينها. لا حساب للوقت؛ فاليوم طويل يكفي لكل ما تريد فعله وإنجازه، ولكل من تريد رؤيتهم في زيارات البيوت أو في مقابلات عادية غير مخطط لها، بل يتوفر لك وقت للقراءة والاطلاع، وممارسة الهوايات البيتيَّة الهادئة.

سربعة..

لم ألحظْ أبدًا هدوء حياتي و(روقانها) هناك، قبل أن تنتقل حياتي وتستقر كليًّا في القاهرة الكبرى. حينها عُرفت الأشياء بتضادها. الناس المسرعون في الشوارع، اللاهثون جريًا من أو وراء أي شيء وكل شيء! محاولات ترتيب مواعيد المقابلات مع الأحباء قبلها بأسابيع أو أكثر، والتي كثيرًا ما تفشل بسبب ازدحام جداول المواعيد وقوائم المهام التي لا تنتهي! لا مجال للصدف أو المواعيد غير سابقة التجهيز!

تحولي من الروقان للسربعة..

في بداية حياتي في القاهرة، وجدتني أقاوم هذا (الرتم) السريع اللاهث، وأحاول -دون قصد مني- الحفاظ على (روقاني). وقد يكون هذا هو السبب في تأخر نزولي للعمل. ولكني لم أنجح طويلًا. ورويدًا رويدًا تسرَّبت (السربعة) إليَّ، وبدأت تسرق مني حياتي. خصوصًا بعد دخولي -المتأخر نسبيًّا- مجال العمل. وبدأت الأولويات تتغير، فبعدما كان للهدوء والاستمتاع والـ(روقان) قيمة عندي تأتي أولًا؛ تبدَّل هذا كله بالسرعة والإنجاز، لألحق بعجلات الـ(deadline) السريعة الداهسة، بل الشعور بالذنب عند التوقف لالتقاط أنفاسي وحصولي على متعة صغيرة سريعة؛ لأن هذا معناه ضياع وقت كان من الممكن أن ينقضي فيما يفيد!

مفاجأة..

وفجأةً حلَّتْ علينا جميعًا فاجعة وباء كورونا؛ التي اضطرتنا لإبطاء (رتم) الحياة، وأرجعتنا غصبًا لبيوتنا. لكني سُررت حينها؛ إذ عُدت لنفسي القديمة التي كانت قد ضاعت مني وسط حياة الـ(سربعة) التي اختطفتني! وجدتني أنجز عملي في هدوء، وأنهيه مبكرًا ليفيض معي وقت، أسألني: “كيف تريدين أن تقضيه؟”.

التوقف لمتعة صغيرة..

ومع توافر الوقت الإضافي، الذي هبط علينا من السماء في بداية أيام الحظر، بدأت في متابعة مسلسل أجنبي أحببته. شدَّني وأمسك بي من أولى حلقاته. عرفت أبطاله، أحببتهم، رأيت نفسي بينهم، وعشت معهم قصصهم. وصرت أنتظر وأتوقع، بل وأسأل عن أجزائه الجديدة متى تأخر! أذكر أوقاتًا غرقت في أحداثه، بعيداً عن قصتي أنا وما يمر بي من أحداث؛ وأيامًا عشتها مُمنِّيةً نفسي بحلقة أو أكثر مُكافئةً في نهاية اليوم، بعد إنهاء عملي وإنجاز مسئولياتي؛ وأيامًا قليلةً أخرى لم أفعل فيها شيئًا ذا قيمة، إلا الجلوس أشاهد حلقةً تلو الأخرى -دون أدنى شعور بالذنب على وقتٍ ضائع-، وأنا مُسترخية مُحدقة في شاشة الـ(لاب توب).
بعد تنفسي الصُّعَدَاءَ، ومسح دموعي يوم أنهيت آخر حلقاته؛ وجدتُني أحسب الساعات التي قضيتها معه. فقد امتدَّ ستة أجزاء، كل جزء منه ثماني عشرة حلقة تقريبًا، مدة كل حلقة حوالي أربعين دقيقةً. أدركت يومها -بحسبة سريعة- أني قضيت ما يقرب من اثنتين وسبعين ساعة أشاهد هذا المسلسل!
ووجدتُني أفكر في هذه الاثنتين والسبعين ساعة؛ لا على أنها ساعات مسروقة ضائعة من عمري، بل على أنها ساعات شعرت فيها أني حية: ساعات فيها ضحكت وبكيت، تذكرت وفكرت، حلمت وتحسرت، تمنيتُ وندمتُ وامتنَنْتُ. كانت هذه الساعات بمثابة جهاز تنفس صناعي ساعد رئتيَّ ليرجع تنفسهما طبيعيًّا!

الوصول للتوازن..

مع نضوجي أصبح للوصول إلى التوازن -على جميع المستويات-؛ قيمة حقيقية عندي: فبعد التأرجح ما بين (الروقان والسربعة)، ما بين (أعمل كل حاجة) أو (ماعملش حاجة خالص)؛ وجدت أنه يمكن الجمع ما بين الإنجاز والاستمتاع. أنهما ليسا متضادين بل متكاملين!
نعم، أنا الآن أصبحت أكثر ميلًا للاسترخاء والاستمتاع، لكني أيضًا أقيم العمل ووجود هدف واضح للسعي نحوه! ووصلت إلى أنه يمكن إيجاد متع في الإنجازات، وإيجاد إنجازات في المتع أيضًا!
فبدأت أخرج من سباقات تنافسية كثيرة، تنزع المتعة من الإنجاز؛ ووجدتني أدرك أن قيمتي ليست في الإنجاز، أو في رأي من يرون إنجازاتي، أو في أي شيء يتغير! وأني أهم من ماذا أفعل! وأني أنا الإضافة لشغلي، وليس شغلي هو ما يضيف لي!
بدأت في التحرر من قيود فرضتها على نفسي طويلًا، بعدما سمحت لرتم الحياة وأحكام المجتمع أن يفرضها عليَّ أيضًا. وهذا التحرر يعجبني!
وتعلمت كيف ألعق قطع البهجة الصغيرة متذوقةً المُتَع البسيطة التي تجود بها الحياة أحيانًا، بعدما أتأكد من تجرُّعي كأس المسئولية منزوع الدلع يومًا بعد يوم!
وتعلمت طرد ذباب الذنب، بطنينه المزعج خارج أفكاري، بعدما تركته كثيرًا يتراكم على مشاعري ويلوث مزاجي دون استحقاق!

المراجعة اللغوية: عبد المنعم أديب

المقالة السابقةالقدرة على الحياة
المقالة القادمةجاتها النوبة

6 تعليقات

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا