أقف عاجزة في نهاية كل عام، تبدو الأحداث بعيدة جدًا وكأنها قد مر عليها دهر كامل، لكنها قريبة جدًا في ذات الوقت، ضبابية، لكن تفاصيلها تبدو ساطعة في ذهني، مُبتلاة أنا بتذكُّر التفاصيل، يلتقط عقلي المشاهد الصغيرة كصور فوتوغرافية ثابتة، ويهمل النظر للصورة الكبيرة الحادثة، فتكون النتيجة هي إلقائي لكل ما مر خلف ظهري، وترقبي لما سيأتي بشغف.
أعجز عن شرح مشاعري بعد كل هذا العمر من التعبير بالكتابة والكلام، يطلق عليّ صديقي لقب “أميرة الحكايات”، أجيد قص حكايات الآخرين ما عدا حكايتي أنا، أتقمص حكايات الآخرين، وأتهرب من قصتي أنا.
عكس الجميع، أتذكر النهايات السعيدة لأحداث قاسية، وأشعر بالامتنان على قدرتي على المعافرة، تمرق ومضات لمواقف كبرى حدثت طوال العام، وجوه قابلتها ووجوه لا أعرفها، أحباء وغرباء مروا على القلب ولو مرورًا عابرًا، أعجز عن شرح السبب الحقيقي وراء الرضا الكبير الذي يغلف حياتي، أعجز عن شرح الجمال في التفاصيل التي حُفِرَت في قلبي..
ابتسامة ابنتي، أول قبلة على أنف ابن شقيقتي، جملة في كتاب جميل تُدمِع عينَي، نظرة تفاهم بيني وبين بائعة المناديل في إشارة، بكاء غريب لا أعرفه خارج المستشفى وهو يتحدث في هاتفه، الطمأنينة في صوت فتاة شابة تحكي لي قصتها مع مرض لا يرحم، تربيتة على كتفي من عجوز أجلس بجوارها على الرصيف نتقاسم رغيفًا وثمرة موز، أحاديث متداخلة بيني وبين صديقاتي، ضحكة من القلب على شيء لا يستحق، كلمة عابرة تمنحني فرحة كبيرة، تمشية وحيدة في جو معتدل بلا أفكار..
أتذكر كل هذه اللحظات الثمينة التي لا يعرفها الآخرون، وأشعر أن الحياة كانت كريمة معي، كريمة رغم كل لحظات الحزن والخوف، وكل شرائط مضادات الاكتئاب الفارغة التي أحفظها في درج خاص بجوار سريري، أتطلع إليها وأقول أنا عبرت من كل هذا، ولا زلت هنا ثابتة أواصل الحياة.
***
في نهاية كل عام، أشعر برغبة عارمة في الحديث، في التحدث بتفصيل عن لحظات مهمة مرت في حياتي، أود أن أحكي للناس عن لحظة سقوطي مغشيًا عليّ في الشارع، أو عندما قابلت كاتبي المفضل ليخبرني أنني سأكون كاتبة رائعة ذات يوم، أود أن أحكي عن لحظة انتصاري بعد إنهائي تجديد رخصة السيارة، أو إنهائي لروايتي الثالثة بعد تعب، أريد أن أحكي عن سبب كتابتها، عن لحظة حاسمة وقفت فيها أمام معهد الأورام في مدينتي أتأمل طفلة صغيرة بشعر قصير أشقر خشن، يحملها أبوها من فرط التعب، فأتمنى لو كنت قادرة على مس جبتها لأنقل إليّ معاناتها وشعرها القصير وعينيها الذابلتين، وأتركها بكامل صحتها، بشعر طويل ذهبي، ووجنتين متوردتين.
تختمر الفكرة في رأسي فأكتبها. يخبرني طبيبي النفسي أنها فكرة قاسية، وأنني أقسو كثيرًا على نفسي، لكني أشعر بأن هذا الحب هو في حقيقة الأمر شفاء ورحمة، لا أتمكن من التعبير بشكل جيد عما أشعر به، لكني أتنفس بشكل أفضل بعد هذه الفكرة، ربما يكون في العالم الكثير من الأمور التي لا يمكن شرحها بالفعل.
***
لماذا تدمع عيناي في نهاية كل عام؟ تغلفني المشاعر المختلطة، ويشدني الحنين لأيام مضت ولن تعود، أتشكك في أن القادم ربما لن يكون أجمل، لكني أتمسك بالحلم والانتظار، هناك الكثير من الأشياء التي أنتظرها دائمًا، قبل ذلك، كنت أخاف من كتابة قائمة أمنيات، أخاف أن أحدد لنفسي أهدافًا يحزنني عدم تحقيقها بعد ذلك، لكني منذ بدأت عامي الثلاثين، وأنا أسمح لنفسي بثلاث أمنيات فقط، سرية لا يعرفها سواي، أكتب فيها ما أريد، وأخبر نفسي أنني لن أحزن لو لم تتحقق، أحيانًا عدم تحقق الأمنيات يكون في صالحنا.
أنظر إلى قائمة أمنياتي السرية التي لا يشاركني في معرفتها أحد، أكتبها في بداية كل عام في ورقة صغيرة لا تفارق محفظتي، أضحك وأنا أنظر للأمنيات الثلاث غير المترابطة، قراءة 100 كتاب، شراء ميكروويف، الدخول في علاقة حقيقية مستقرة، لم أحقق سوى الأمنية الثانية، في لحظة تهور سعيدة وقفت فيها أمام جهاز ميكروويف صغير في السوبر ماركت الكبير، ثم حملته إلى عربتي دون التفكير في ميزانيتي المتبقية لآخر الشهر، أو ماذا سأفعل به وأنا أكره المطبخ والطبخ.
إلى اليوم، يقبع الميكروويف على بار المطبخ في سكون، تقتصر مهمته في تسخين كوب النسكافيه الذي يبرد بسرعة بسبب سرحاني المستمر، لكني ألمسه بحنان، أفكر في أن تحقيق الأمنيتين الأخريين ممكنًا ما دمت حققت ثالثتهما، يتحول شيء لا منطقي كميكروويف أبيض صغير إلى رمز للتحقق، إلى دليل على أن أمنياتي البسيطة المضحكة ليست كذلك، إنها قادرة على منحي الأمان والاطمئنان، الثقة بأنني سأقرأ كل الكتب التي أريدها، والتأكد من أنني سأقع يومًا في الحب، يجعلني الميكروويف الأبيض الصغير لا أخجل من رغبتي في الاستقرار والاستناد إلى رجل يُقدِّرني وأقدره، تمنحني قدرتي على تنفيذ أمنية حمقاء، تناسب مراهقة لا امرأة في الثلاثينيات، الشجاعة لمواجهة الجميع، والأمل في عام جديد قادم.
*العنوان من قصيدة للشاعر مصطفى إبراهيم.