إلى ميس سعاد.. تنمرك دمرني

919

عزيزتي ميس سعاد..

في الحقيقة أنتِ لست عزيزتي على الإطلاق، ولكنها الكياسة التي لا بد أن أستخدمها لأكتب هذا الخطاب/ المقال٬ الذي أتمنى من أعمق نقطة في قلبي أن يصلك بشكل ما٬ أن يعثر عليه أحد ويرسله لك. سوف أدعو الله بإخلاص أن يحدث هذا٬ نفس الإخلاص الذي كنت أدعو به يوميًا قبل نزولي للمدرسة الابتدائية أن تغيبي اليوم.

 

هل تذكرينني؟ أنا إنچي٬ الفتاة السمراء القبيحة السمينة البليدة في مادة الرياضيات التي كنت تدرسينها في مدرسة الياسمين الخاصة بالإسكندرية٬ أنا إنچي التي كانت تحصل على درجات ضعيفة جدًا في الرياضيات٬ والتي كانت ترسب باستمرار في امتحانات الشهر وتنجح بالكاد في امتحانات منتصف وآخر العام.

 

هل تعرفين أنني عشت أسوأ أربع سنوات على الإطلاق في دراسة مادتك٬ من الصف الثاني الابتدائي حتى الخامس الابتدائي؟ هل تتصورين أن معدتي في هذه اللحظة تؤلمني لأنني تذكرتك؟ هل تعرفين أن مشكلتي مع الرياضيات استمرت طوال حياتي، وأنني ظللت حتى عامي الأخير بالجامعة أرسب في مادة الإحصاء بسببك، على الرغم من تقديراتي المرتفعة في بقية المواد بلا استثناء؟

 

صوتك الحاد وعصاكِ الزان المصمتة المطلية بالأبيض التي كنت تفخرين بها دومًا٬ سخريتك الدائمة مني ومن قدراتي الضعيفة في الحساب٬ صراخك المستمر في وجهي٬ معايرتي بدرجاتي المتدنية وشماتتك المستمرة في بكائي٬ نعتي بالكاذبة لأنني كنت أخفي درجاتي المشينة عن أهلي لخوفي الشديد من كل شيء وخجلي من غبائي.

قضيت الأعوام الثمينة التي يعتبرها أقراني أسعد سنوات حياتهم في خوف دائم٬ أورثني مشكلات عصية على الحل، لاحقتني باقي سنوات دراستي٬ بل وحياتي. فشلي في مادتك وتنمرك المستمر على هذا الفشل جعلني أحاول مداراة خجلي منه لسنوات طويلة. لجأت لكل الحيل الواعية وغير الواعية٬ ولكن الفشل كان يلاحقني دومًا٬ وما زلت إلى الآن أستغرب حب مستر أكرم مدرس الرياضيات في مدرستي الإعدادية لي -رغم درجاتي المتدنية- حبًا لم أفهمه قط٬ ربما كان يعرف أنني متفوقة في باقي المواد فعرف أن غبائي في مادته ليس بيدي.

 

ميس سعاد.. أنتِ دمرت ثقتي بنفسي٬ جعلتِني شخصًا يدمن التخفِّي٬ لم أر نفسي غير قبيحة غبية كاذبة مزعجة٬ لسنوات طويلة٬ طويلة جدًا يا ميس سعاد، حتى أوشكت على التخرج في الجامعة واكتشفت الكتابة٬ الشيء الوحيد الذي أعاد لي ثقتي بنفسي وبالعالم.

كيف أمكنك أن تورثيني كل هذا القهر؟! لماذا كرهتِني كل هذا الكره وأنا طفلة لا تفقه شيئًا؟! هل كنت أقبح من أن تحبيني كما كنت تخبري تلميذتك المدللة ذات الشعر الذهبي الطويل، أم أنني أغبى من أن أستحق هذا الحب كما كنت تخبري تلميذتك المدللة الأخرى ذات الشعر الأسود والبشرة البيضاء؟! لماذا لم تحبني يا ميس سعاد؟ لماذا لم تري ضعفي وتحاولين مساعدتي في فهم مادتك لعلي أنجو من العذاب٬ بدلاً من أن توبخيني باستمرار وتخبريني أنني سأفشل في كل شيء حتى عندما أكبر وأتزوج؟

 

ما فعلتِه في قلبي لا يخص الأرقام فقط٬ أنت أفقدتِني ثقتي في نفسي بالكامل٬ لسنوات طويلة جدًا كنت أعرف في قرارة نفسي أنني لا أستحق الاحترام وأنني إنسانة سيئة٬ وكنت أمثل العكس تمامًا حتى لا يرى أحد هشاشتي٬ والنتيجة أنني عشت سنوات طويلة مسخًا مشوهًا لا يعرف نفسه ولا يعرفه أحد.

 

الكثير من الظلام يا ميس سعاد خلقتِه بداخلي على مدار أربع سنوات٬ لم أتخلص من لعنتها سوى بمعجزة٬ وحتى عندما تخلصت من كل هذا الألم بقيت رواسب لا زالت تطاردني إلى الآن٬ لا زلت أحلم بكوابيس تلتهمني فيها الأرقام، وأجلس في لجان امتحانات لا أتمكن فيها من حل أي شيء.

 

أنا كبرت الآن يا ميس سعاد٬ نجحت في شيء لم أحتج فيه الرياضيات أبدًا٬ أنا الآن كاتبة ومحررة٬ لم أفشل في تعليمي ولم أفشل في عملي٬ ولم أفشل في زواجي ولا أمومتي٬ أنا ناجحة يا ميس سعاد رغم كل كلماتك المسمومة.

 

أنا الآن مختلفة عن الفتاة المنبوذة التي حطمتِها٬ نعم نجحتِ في تدميري لوقت طويل من الزمن٬ ولكنني نجحت في أن أنهض من تحت هذا الدمار وأكون الآن امرأة لامعة ومحبوبة وجميلة٬ تطلَّب هذا مني سنوات طويلة ومعجزة ربانية لكنه حدث٬ رغمًا عني وعنك حدث.

 

ميس سعاد.. أكتب هذا المقال الآن لا لأعلن مسامحتي لك (لأنني لم ولن أسامحك ما حييت)، ولا لأعلن كراهيتي لك أيضًا لأنني لن أمنحك هذا الانتصار٬ أنا أكتب هذا المقال لأحاول تعريفك ما فعلتِ معي٬ ولأحاول أن أخبر آخرين مثلك بمدى فداحة ما يفعلونه٬ ربما يفيقون.

المقالة السابقةكل الأشياء السيئة لا بد لها من نهاية
المقالة القادمةأو اطرحوه تنمرًا
إنجي إبراهيم
كاتبة وصحفية مصرية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا