إقبالنا على الفرص الثانية شجاعة أم عدم انتماء؟

413

أنا

أحب الفرص الثانية لكنني صِرت أخشاها.. أخشاها لأني مترددة، جبانة ولا أثق بقدراتي، والأهم أنني ما عُدت أملك رفاهية البدء من أول السطر، ليس لأن البدايات غير مُتاحة، ولكن لأنني كسولة جدًا ولا طاقةً لديَّ على النحت بالصخر من الصفر.

 

أحاول أن أتذكر.. هل كنت هكذا دومًا، أم أن ذلك أصابني مع التقدم بالعُمر والأمومة؟ تلك التجربة التي زادت قلبي وهنًا وذاكرتي نسيانًا، فأجدني بالعشرينيات كنت أكثر جرأةً وجنونًا، أُطارد الفُرص فأقتنصها دون السماح لأحد بالوقوف في طريقي، فوقتها لم يكن لديَّ ما أخشى خسارته، أو ما هو مُكَبَّل برقبتي مُستمدًا وجوده من وجودي.

 

ونس

تلتحق ابنتي بالمدرسة هذا العام، آخر شهر قبل الدراسة تظل تَعدّ الأيام انتظارًا لدخولها kg1، تُصيبها نشوة أنها كبرت، ومع اقتراب الموعد ينتابني أنا الشجن، أتحدث مع معلماتها بالحضانة فتترقرق عيناي بالدموع، أما هي فأسألها ألا تحزني لأنك سترحلين؟ تُجيبني بـ”لا” قاطعة، مُعللةً ذلك أنها ستذهب للمدرسة ولا يُمكنها أن تكون بمكانين في نفس الوقت!

 

تبدأ الدراسة، فإذا بها تتعلق بالمدرسة أكثر، وحين أحاول استدراجها للحديث عن الحضانة وإذا ما كانت تشتاق إليها، تصدمني بأنها لا تهتم، فهذه المرحلة قد انتهت، والسبب الوحيد الذي قد يدفعها للرجوع إلى هناك هو انتهاء السنة الدراسية، فتلتحق بالــSummer Camp.. تمامًا كالكبار.

 

أنا

أشكو دومًا أن العمل بالكتابة مبيأكلش عيش، من وقت لآخر تأتيني فرُصٌ لا بأس بها، إلا أنني سرعان ما أعتذر عنها أو أؤجلها بحجج فارغة وغير حقيقية بالمرة، فما من رغبة لديَّ بالمواجهة، ولا أريد كذلك أن أشعر بالضآلة أمام نفسي حين أخذلني مُتقاعسةً عن المحاولة، فألجأ للحلول الوسط، والكثير من “رُبما أعمل معكم بوقتٍ لاحق”.

 

فالمزيد من العمل يَعني الحاجة إلى تنظيم الوقت، وهو ما أنا فاشلة فيه، يَعني التزامًا جديدًا يُضاف إلى قائمة أولوياتي الطويلة جدًا بالفعل، يَعني مُحاولة إثبات نفسي بمكان مختلف ومع رؤساء عمل جديدين، يَعني أفكارًا خارج الصندوق ما عُدت أظن أنني أملكها، يَعني علاقات وروابط ومزيدًا من بصمات الروح المتروكة خلفي.

 

ونس

ابنتي تمارس الجمباز منذ أكثر من عام، والسباحة منذ بداية الصيف، هي تحب ممارسة الرياضة وتستطيع تحقيق نجاحات بها إذا ما استطاع المُدرب فَك شفرتها وأدرك مفاتيح شخصيتها، لكنني ألاحظ مؤخرًا أنها لم تعد تستمتع بلعب الجمباز، رغم انتقالها لمستويات أعلى وأصعب مع الوقت.

 

أفكر في أن أجعلها تُجرِّب الباليه، أعرف أنها تريد ذلك، لكن يعز عليّ السنة والنصف التي بذلناها بالجمباز، أكره أن نبدأ من الصفر، أن أضع يدي على قلبي إلى أن تجد مُدربًا تنسجم معه ويُقنعها بتَحَمُّل آلام اللعبة في سبيل التطور.

 

أرى الصواب هو أخذ إجازة من اللعبة التي أرهقتها، وتجربة لعبة جديدة تتمنى ممارستها، ربما تُحبها أكثر فتكون المنشودة، أو تُحبها أقل فتعرف أن الجمباز يليق بها، لكنني بنفس الوقت لا أجرؤ على اتخاذ القرار بالرحيل.

 

وفي لحظة محبة خالصة خالية من أي أنانية أُقرر وضع حد لرغباتي الشخصية وأشترك لها في الباليه، لنذهب بعدها إلى آخر تمرين جمباز، تتمرن هي بينما أجلس بمكان التدريب بقلبٍ حزين منقبض، أنظر لكل الجدران والأشخاص بتأثر بالغ وغريب.

 

ينتهي التمرين فأظل بمكاني لا أقوى على المغادرة، تنتابني غصة تجعلني على وشك البكاء، أُصمم أن تودع ابنتي المدربين، تفعل ذلك بابتسامة وحماس وسط إخبارها لهم أنها ستبدأ لعبتها الجديدة قريبًا، لكن بيني وبين نفسي أعرف أنني أفعل ذلك لأودع أنا هذه المرحلة.

 

تعود أنانيتي، أو ربما قصر نظري لأول الصف، فأتحدث مع “ونس” عن فجيعة الفراق وكيف يكون خوض تجربة جديدة أمرًا صعبًا في أوله، في حين أنها قد آلفت ما تفعله وصار لديها خبرة فيه، فتُخبرني إن “عادي يا مامي، أنا بحب الباليه، ولو طلع وحش هرجع الجمباز”.

 

أنا

مؤخرًا صار على هاتفي الخلوي جروبات واتساب كثيرة جدًا، جروب أمهات الحضانة، جروب أمهات المدرسة الجديدة، جروب أمهات كي جي1، جروب أمهات فصل ابنتي على وجه التحديد. كل يوم أشاهد الأمهات يُحاولن توطيد العلاقات بعضهن ببعض، لكنني أحاول قدر الإمكان التعامل معهن باعتبارهن أمهات أصدقاء ابنتي لا أصدقائي الشخصيين.

 

أخبرهن ذلك بشكل فَج ومباشر لعلهن يُخرجنني من حساباتهن، ذلك لأن العلاقات الجديدة تمامًا كالفرص الثانية بالنسبة لي، مشاريع ارتباطات وجذور ممتدة بالأرض، وهو ما يتناقض مع حاجتي الدائمة للبقاء دون انتماء، أُفَضِّل أن أظل وحدي دون خيوط تشدني لأسفل، بعلاقات ووظائف أحاول تسطيحها قدر الإمكان كي لا تعرف طريقها إلى القلب، لأنني أعرف نفسي جيدًا، فما أن أفتح نافذة الروح حتى أنغمس بالكامل وتنهار كل دفاعاتي.

 

ونس وأنا

ابنتي الطيبة..

ما زال أمامك عمر بأكمله مليء بالفرص الثانية والثالثة ورُبما المائة، لا تستمعي إليّ، كوني شجاعة، لا تهابين التغيير، تعلمي معاودة الوقوف كلما سقطتِ، واعرفي أن للدنيا ملايين الأبواب، فلا تسمحي لأحد –حتى أنا- أن يحصرك خلف أبواب محدودة، عملاً بمبدأ “اللي تعرفه أحسن من اللي متعرفوش”.

 

الفشل ليس سُبَّة، الهزيمة بمنظور آخر ستدفعك للأمام، والنجاح بشيء لا يَعني ألا نُجَرِّب أشياءً أخرى، فدون التجربة لن تكتشفي قُدراتك أبدًا، فأنتِ يا حبيبتي زهرة مع كل يوم ستتفتح أكثر، وتتماس مع الحياة، فأطلقي لخيالك وأجنحتك العنان.. حَلِّقي ولا تتوقفي عن الطيران.

 

ياسمين..

أعرف أنكِ تخشين أن تصبح ابنتك مثلك “لا مُنتمية”، أراكِ ترتابين من إقبالها على التجارب الجديدة ورباطة جأشها أمام هيبة البدايات، فتظنين ذلك ناقوسًا يُعلن أن قلبها قاسٍ وأنها لن تلتف يومًا للوراء كما اعتدتِ أن تفعلي.

 

عساها وحدها الأمومة تجعلك تُدركين أن البدايات الجديدة والفُرص التي نمنحها لأنفسنا لا تَعني أننا “بايعين” أو أن قلبنا مُصمت، بل أن بداخلنا مُتسعًا مما يُمكننا بذله ومنحه، فوحدها رحابة الروح تجعلنا قادرين على قَلب الصفحة ومُعاودة الحكي بصفحة جديدة بلا خسارة أو نقصان.

المقالة السابقةرسالة لكل أم جديدة
المقالة القادمةمتستقويش نفسك
ياسمين عادل
امرأة ثلاثينية متقلبة المزاج، أعشق الرقص على السطور كتابةً، أُحب الفن بمختلف أنواعه وأعيش عليه. والآن كبرت وصار عليّ أن ألعب في الحياة عشرات الأدوار طوال الوقت، لأستيقظ كل صباح أُعافر حتى أستطيع أن أُحاكي بهلوانات السيرك فأرمي الكُرات المُلونة بالهواء ثم ألتقطها كلها في آنٍ واحد.

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا