رانيا منصور
متى بدأتُ الشعور بكل هذا الحزن في داخلي؟
متى أكلني الألم وأصبحتُ لا أذكر كيف كنتُ قبل سنين؟
لا أدري!
فقط أدرتُ ظهري ووجدتني أقف وحدي على حافة الحياة، لا أرغب فيها ولا ترغب فيّ. في حين يجلس بين يديَّ ابن صغير ككوكبٍ دري، وفتاة أجمل كالسعادة. ورغم ذلك وجدتني أضرب الماء بعنفٍ طوال الوقت وأتساءلُ عن سر ابتسامتي في الصور القديمة، وعن مهارات الحياة التي سقطت مني وأنا أركض فيها. أظل أيامًا وشهورًا حزينة دون سبب. أصحو من النوم غير راغبة في القيام ولا قادرة على مواجهة النور. وأنام كالخفافيش.
أذهب للطبيب فلا يقرر سوى أنني مريضة بالحزن. أتناول الدواء وأنظر أمامي لأجد الضيق يمرر أصابعه داخل جوفي ويضحك.
أغيّر الطبيب. أذهب لآخر كي يناولني وصفة أخرى للتداوي من الحزن. أجلس أمامه كفرخٍ لا يعرف إلى من ينتمي ولا من أين أتى. يقولُ بلهجة حاسمة إنه الاكتئاب دخل ضلوعي على حين غفلة. أظنني ابتسمتُ أخيرًا.
أظنني شعرتُ أخيرًا بالراحة.
ربما لأنني أخيرًا لن أتهم نفسي بالتدلل الباهت، ولا ادِّعاء الكسل كي لا أرفع يديّ للأعلى ولا التكاسل عن الصلاة واقفة.
ربما لأنني عرفت أخيرًا أن لي ما يبرر حزني، وأنني لا أتكاسل في الصحو مبكرًا كما عهدت نفسي، ولا أتجنب اللعب مع أطفالي قسوة أو امتهانًا.
وبكيت.. ربما ليس حزنًا ولا صدمة وإنما امتنانًا للمعرفة.. عرفتُ أن لي بعض عذرٍ فيما أشعر به. عرفتُ أنني لا أتدلل على الله وأن ما بي لا يمت لعدم الرضا بصِلة، وأنني أعاني كآخرين.
تذكرتُ أيام غسلت جسدي بالماء والقرآن، أيام تلفحتُ بذكر الله كي أتخلص من العين والحسد، جلسات التأمل والنور الخافت والكلمات الهادئة.
كل تلك الأشياء التي بدأتُها وأنا لا أدري ما بي، ولا أعرف تعريفًا واضحًا لما أشعر به. وخرجتُ منها وأنا لا أدري إن كنتُ تعافيتُ أم بقيتُ في موقعي، أحركُ قدميَّ وأنا في نفس المكان.
وصف لي الطبيب بعض الأدوية وبدأتُ تناولها بقدرٍ من الأمل في التعافي أو حتى التمرن على الحياة. وسرتُ على الطريق يصعد ويهبط بي.
أخرج إلى اليوم الجديد مرحة سعيدة.
أو أخرج إليه بذات الحزن الذي يفترس راحتي بلا رأفة.
الشيء الوحيد الذي خرجتُ به من تجربتي التي لم تنته بعد، أنني لم أجرم لأخفي ما بي. أنا متعبة، وغير مطالَبة بما هو أكبر من احتمالي. الناسُ بين صديقٍ وحبيبٍ كثيرًا ما يدهسون أحباءهم دون أن يدروا. ورغبتهم في المساعدة كثيرًا ما تفعل العكس. نصائحهم التي تعكر صفو اليوم ورضا النفس عما كُتبَ لهم في صحائف القدر، وتقليل أثر المرض توهمًا أن من ذلك ما يعافينا، كل ذلك يقدح الألم في النفس ويعيد للروح وجعها القديم وإحساسها باللوم المستمر.
أيها الناسُ الذين يحبونني، لا ترجموني بالنصائح التي لا بد جرّبتُها ولم تؤتِ ثمرًا.. لكن ابقوا بالجوار.. وادعوا لي بشجاعة المواجهة والتعافي.
أيها الناس الذين يعرفون في حياتهم حبيبًا يأكله الاكتئاب، كونوا قربه ولا تؤذوه.
أيها المريض، تعافَى قدر ما تستطيع، استعن بالله، وتقبَّل الأمر بسلاسة.. حاول بكل الطرق أن تعيش، فلا أحد غيرك سيعاني لأجلك.
تجربتي مع الطبيب النفسي والاكتئاب