أولويات كل صباح

612

“وبعدين؟!” بهذه الكلمة، أستقبل يومي كل صباح، ما أن أفتح عيني حتى تتلقفني آلاف الأفكار بشأن ما عليَّ القيام به “أقوم أروق الشقة في السريع، ولا ألحق أعمل فطار يونس قبل ما أنزل الشغل، ولا أغسل المواعين بسرعة، ولا أرتب لبسي ولا أعمل إيه؟ طيب لو نجحت أخلص ده كله أعمل إيه تاني قبل ما أنزل؟ وبعدين؟”، لا يسعفني التفكير في الحصول على إجابات شافية، فكل شيء مطلوب مني تنفيذه وعلى وجه السرعة، في غضون ساعة أو أقل. لن أشعر بالسرور حين أعود من عملي لأجد بيتي مقلوبًا رأسًا على عقب، كما أن ابني لن يغفر لي الذهاب إلى الحضانة دون طعام، سيعود به بالضرورة آخر اليوم، المهم أن يحصل عليه، يحررني هذا من الشعور بالذنب.

 

من السرير إلى المطبخ، أقفز سريعًا، بين الموقد وحوض المواعين أستقبل يومي، بينما تتخطفني آلاف الأفكار بشأن ما كان وما يجب أن يكون. أحاول تنفيذ مهام أكثر في وقت أقل، أسارع لتشغيل الغسالة، لكنني كالعادة أنساها حتى أصل إلى الباب فأتذكر الغسيل الذي يجب أن يجد طريقه إلى الشمس، قبل أن تحل عليه لعنة “الكمكمة”، حيث لا وقت لدى الغسيل، تمامًا كما هي الحال معي.. الوقت لم يوجد إلا ليحيل حياتنا جحيمًا، حياتي أنا على الأقل.

 

يباغتني الإرهاق سريعًا بينما اليوم لم يبدأ بعد، التفكير يعتصر عقلي في قائمة مهام اليوم، كيف سأقوم بتنفيذها وسط الكثير من المسؤوليات؟ فجأة أجدني أردد، دون توقف “الحياة صراع ومقام غربة، والمجد الوحيد الباقي هو الخمول”.

 

للحظة أسأل نفسي “يعني لو قاعدة في البيت هشتكي من المهام، وطول ما أنا بشتغل برضو بشتكي! إيه المطلوب؟ هتحسي براحة امتى؟!”، في تلك اللحظة شعرت فجأة بعمق حكمة الفيلسوف اليوناني ماركوس أوريليوس، الذي أُعِده صديقًا مقربًا لي، لقد لخص الرجل كل شيء في جملة واحدة “المجد الوحيد الباقي هو الخمول”، فلو كان الأمر بيد أي منا لن يبذل أحد أي مجهود في أي شيء. يضحي فجأة “الأكل والمرعى وقلة الصنعة” نعمة كبرى وأملاً منشودًا، حيث لا احتراق أعصاب بحثًا عن الالتزام بالبصمة، ولا ركض خلف موعد الحضانة ولا إنهاك في التفكير “هناكل إيه؟” و”الهدوم مغسولة ولا لأ”.

 

“الأذى لا يأتيك إلا من ذاتك.. الأشياء بريئة وخاملة ومحايدة، ليست الأشياء ما يكربك، بل فكرتك عنها”، أقولها لنفسي محاوِلة تقمُّص الحكمة، متشبثة بقول ديمقريطس “إذا شئت أن تعيش سعيدًا فلا تعمل إلا أقل القليل”، لكنني فجأة أفيق “أقل قليل مين؟!”، للأسف الشديد فإن تلك الصورة الوردية التي رسمها لي أصدقائي الفلاسفة عن الحياة السعيدة لا تتسق بأي حال مع مهام الأيام المكتظة في الحياة المعاصرة. قرأت كلماتهم مئات المرات حتى ترسخت في قلبي وعقلي، لكن أقرب تنفيذ يثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن الفلسفة لن تعينني بقدر السياسة، تحديدًا فكرة “الانتخابات” وحدها التي يمكن أن تساعد في العثور على إجابة صباحية يومية.

 

المهام لا ولم ولن تنتهي، لكن السؤال دائمًا يبقى “إيه المهم؟ وإيه الأهم؟”. عثرت أخيرًا على الإجابة، وإن كنت غير ماهرة في تنفيذها، حيث يتوجب عليَّ طوال الوقت أن أُجري تلك الانتخابات في عقلي بشأن الأولوليات، مع إيمان كامل بعجزي عن الوفاء بكل شيء في نهاية اليوم، لكنني على الأقل سأضع رأسي على الوسادة وقد أنهيت الأهم، في انتظار تنفيذ المهم خلال اليوم التالي.

 

في أوقات عديدة أعود لأتساءل “ماذا عن الحياة؟ هل هذه الحياة التي كنت أركل بطن أمي لأجلها؟!”، لكن الأهم: ما هو تصوري عن شكل الحياة المثالي أصلاً؟ هل هي تلك التي آراها في الصور الجميلة لفتاة تصحو وتتمطى في سريرها بين الفطور والورد؟ هل سأكون سعيدة وقتها بقدر سعادتي حين أترك منزلي وقد أنهيت غسيل الأواني تاركة المطبخ “قشطة”؟ هل سأكون مرتاحة أكثر من تلك اللحظة التي أجلس فيها لأرى منزلي أخيرًا نظيفًا لدقائق قبل أن يعود سيرته الأولى من فرط اللعب والبعثرة؟

 

أخيرًا وصلت لفلسفتي بشأن الأمر، بعيدًا عن ديمقريطس وماركوس.. إننا نظل نطارد الحياة التي نرسمها في خيالنا، بينما الحياة الحقيقية تفوتنا بالكامل، الحياة الحقيقية عبارة عن انتخابات مستمرة ونجاحات صغيرة متراكمة، نتيجة الاختيارات الصحيحة، قَلَّت أو كَثُرَت، هي ما يصنع حياتنا الحقيقية ويعطيها رونقًا وطعمًا، بل أنه في أحيان كثيرة يجعلها ملهمة لآخرين ما زالوا عالقين في الصور الوردية، بانتظار الحياة الحقيقية.

المقالة السابقةعن الموقع الذي كاد أن يدمر حياتي
المقالة القادمةالله يسُكننا
رحاب لؤي
كاتبة وصحفية مصرية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا