سألني الطبيب: أتريدين إلقاء نظرة عليه؟
“نعم”.. أجبته بينما أحبس دموعي التي انحدر بعضها على وجهي دون إرادة مني.
علامات دهشة وعدم تصديق ارتسمت على وجه الطبيب، فهو أول مرة يرى مريضة تبكي بسبب خلع ضرسها بتلك الحرقة، كنت أقاوم البكاء بكل قوة ممكنة خلقها الله على الأرض، ولكن عينيَّ الحمراوين فضحتاني، فحاول الطبيب تهوين الأمر وهو ما زال مندهشًا: أتبكي بسبب خلع ضرسك؟! لقد كان يؤلمك، وهو في النهاية مجرد ضرس.. لو لم نخلعه لكان الألم قاتلاً، الأمر يبدو بسيطًا!
يبدو الأمر كذلك بالنسبة للطبيب، وحتى لأي شخص آخر يرى الموقف، ولكن الطبيب لا يعلم حكاياتي مع جدتي في آخر أيامها عن أسنانها التي فقدتها واحدة تلو الأخرى، وانتهي بعدم قدرتها على تناول الطعام، ولا يعلم الطبيب أنها كانت تمزح معي بينما يبدو الحزن على ملامحها، وهي توصيني بالحفاظ على أسناني، تأكيدًا لحكمتها الخالدة أن ابتسامة المرأة هي تاج لها بعد شعرها.. فها أنا أفقد التاج الذي خلقه الله لي.
***
كنت في قمة الترقب والتوتر، فهذه أول مرة أخرج فيها مع زوجي بعد زفافنا. “هنتأخر” قالها زوجي بعد أن نفد صبره من التأخير.
– أبحث عن المشط الخاص بي.
– ولكنه مجرد مشط! هناك فرشاة أخرى.
– لا أحبها، ثم هو ليس مجرد مشط.
– بل هو مجرد مشط قديم وحتى لونه غريب.
بدا المزاح الممزوج بالسخرية في صوته، لتبدأ معركة كوميدية بيننا عن أنواع “الأمشاط” الحديثة والعلامات التجارية التي نعرفها، والتي ستكون أفضل شكلاً وموضوعًا من ذلك المشط الأخضر البلاستيكي الصغير.
لم تهدأ المعركة إلا بعد أن أخبرت زوجي أن ذاك المشط هو هدية من جدتي وأنا صغيرة، وعلى الرغم أنني استخدمت الكثير من أدوات التجميل المعروفة لكنني لم أرتح إلا معه.
بدا الأمر لزوجي بسيطًا وأنني أعطي الموقف حجمًا أكبر من قيمته الحقيقية، لكني لم أخبر زوجي أو أحدًا عن تلك الحقيقة، هي أن ذاك المشط الذي عفا عليه الزمن بالنسبة لي رابط بيني وبين جدتي التي أفتقدها كثيرًا، وأنني عندما أحمله معي في حقيبتي أشعر وكأنني أحمل جزءًا من روحها معي.
***
خلال زيارة إحدى الصديقات، كان هناك الكثير من النميمة البريئة والضحكات، والتي تتميز بها جلسات الفتيات، ولكن كان هناك أيضًا الكثير من الدهشة بعد أن وقعت عين صديقتي بالصدفة على مجموعة من أطباق وأواني حفظ الطعام مصنوعة من الصاج الأبيض في مطبخي، وهي الأطباق التي لم يعد جيلنا يستخدمها الآن، فمعظمها ينتمي إلى زمن الجدات.
أخبرتها بالفعل أن تلك الأطباق هي ذوق جدتي، وأنا ببساطة قررت استخدامها. ولكن علامات الاستهجان ظهرت في كلام صديقتي عن أهمية الحداثة في مطبخي وأن عليّ استخدام الأدوات والأجهزة الجديدة التي تجعل أي شخص يشيد بذوقي وليس مجرد أطباق صاج تجعلني مثار سخرية.
لم أشأ أن أخبر صديقتي أنه لا يهمني أي كلمات سخرية سأحظى بها، فهذه الأطباق البيضاء الصغيرة، ذات الملمس الناعم جدًا والمكللة بزهور رمادية رقيقة، هي هدية من جدتي لأبي، احتفظت لي بها منذ أن كان عمري عشر سنوات، وأهدتني إياها قبل زواجي، ورغم أنها قديمة لكنها بالنسبة إليَّ كنز ثمين، فهي تعطي مطبخي لمسة الجدات والأجداد، وتمنحني الإحساس بأن حياتي بعد زواجي هي امتداد لحياتي في بيت العائلة الذي غادرته، وأنني مهما بعدت عن عائلتي ما زلت أحتفظ بجذوري.
***
في إحدى الدورات التدريبية الخاصة باللغة الإنجليزية، كان هناك تدريب معين، هو إحضار أي شيء قديم ما زلت تحتفظ به في منزلك وتتحدث عنه، عندما أخبرت زملائي أنني أنوي إحضار بطانية كان الضحك والسخرية شديدين، ضحكت مع الضاحكين، ولكنني لأول مرة قررت الحديث دون خوف عن مشاعري، عن تلك البطانية التي صنعتها أمي بيدها، والتي كانت دومًا رفيقتي في السفر أو في اللعب، وعن مشاعر الطفولة البريئة التي أستعيدها بمجرد النظر إليها بلونها الوردي، وعن تلك الضمادات التي كانت أمي تصنعها بخيوطها الرقيقة لتخفي التمزق والقطع الذي يظهر على البطانية جراء الزمن.
***
كثيرة هي الأشياء البسيطة والغريبة التي نحتفظ بها في أدراجنا، في خزائنا ودواليب بيوتنا، والتي قد تبدو مجرد مهملات بالنسبة لغيرنا، بل وقد تجعلنا أحيانًا مثار ضحكاتهم وأحيانًا أخرى سخريتهم، ولكنها كالنافذة التي نطل منها على جزء من ذكرياتنا فنبتسم ابتسامة الموناليزا الشهيرة، التي تجمع بين الحزن والفرح، فنحن ندرك أننا عشنا قدرًا من السعادة مع أحبائنا ولو كان ضئيلاً بعد أن رحلوا أو فرقت الأيام بيننا، ونأمل أن نصنع لوحة أخرى من السعادة ولكن مع أحباء جدد.
وبسيطة هي المواقف التي نمر بها في حياتنا، والتي نبدو فيها ونحن نبكي على أشياء أو نتمسك بحاجات كأننا عدنا أطفالاً، فلا العمر ولا الوظيفة ولا الوضع الاجتماعي فارق، مثل بكائي على ذاك الضرس، ولكن تلك المواقف تكون مثل الهواء النقي الذي يجلي روحنا في أيام الحزن الشديد، فتصبح مثل المرآة صافية رقيقة ترى للحياة معنى وقيمة مرة أخرى.