ظللت أحدث نفسي طويلاً، لماذا لا أرى رجلاً سواه؟ لماذا كان رائعًا بهذه الدرجة؟ أبي ذلك الرجل الذي بسببه صدقت البطل في الأفلام الرومانسية، وأدركت أنها حقيقة وليست خيالاً من فكر مؤلف مغمور يبغي الشهرة. هذا الرجل الذي يُقبّل يد زوجته فور رجوعه من عمله بعد يوم شاق، ويصر على مساعدتها في البيت، ويحرص على الخروج معها وحدهما من حين إلى آخر، ويهتم بأبنائه ويقبّلهم ويداعبهم ويربيهم ويوجههم.
أبي هو الرجل الذي بسببه لم أعد أرى رجلاً في الوجود سواه، حتى أني فكرت في الارتباط بمن يكبرني سنًا لعله يكون أبي.. ولكنه لم يكن! ولما ورث إخوتي عنه الرجولة ورأيت كيف يعاملون زوجاتهم ازددت سخطًا على ذلك الجيل الذي ليس فيه رجل كأبي وإخوتي.. ولكني لمحت في إخوتي نبرة الشباب وبعض الصفات التي وجب الوقوف عليها، ودققت أكثر فرأيت أنها عوامل السن ودوافع الصبا.. هنا توقفت لأسال عن أبي في صباه!
وبعد مراجعة وتفكير عميق، أدركت أني الطفل الرابع بين إخوتي وأني لم أرَ أبي في صباه كيف كان؟ وكيف احتملته أمي حتى روّضته ليصير أبي هو أبي الذي أعرفه، فأنا لم أرَ سوى أبي الذي صنعته أمي. سألت أمي عن أبي الذي لا أعرفه في أول عشر سنوات من زواجهما.. فأخبرتني بما لم أكن على استعداد لسماعه.. ولكني أدركت حينها دور أمي الذي أغفلته سهوًا، أو لأحادية النظرة التي طالما نظرت بها لأبي الرجل المثالي.
كيف أغفلت دور أمي لعشرة أعوام كاملة؟!
احتملت فيهم أمي غيرة أبي المفرطة حتى نالت ثقته، واحتملت بأدب عصبيته حتى خجل من هدوئها، فصار الأطيب، وصبرت معه على الشدائد فقدّرها واحترمها. لملمت شتات أيامه واحتوته فأكسبته الحكمة. أخيرًا فهمت أن أبي الذي أعرفه هو نتيجة صبر أمي. وأني لأنال رجلاً كأبي عليّ أن أكون كأمي. في حياتنا الكثير مما نجهله، وأبواب كثيرة مغلقة، وأحيانًا يستعصي علينا فتحها، فنتجه للأبواب المفتوحة لأنها الأسهل في قراءتها والأوضح.. ولكن للأسف لن تكتمل الرؤية إلا إذا نظرنا خلف الأبواب المغلقة.