بقلبي قبل أذني: ماذا تعلمت من الاستماع للغير؟

2405
يُقال إن القراءة تعلم أدب الاستماع وكل كاتب كاتم. وأنا أحب الكتابة والقراءة. لذا فأنا مزيج من القدرة على الإنصات المخلص للغير، والعصيان البالغ -لا شعوريًا- للبوح عما في نفسي. أنصت بعناية وحب للغير، وأجيد إخفاء ما يضمه صدري، بعناية بالغة أيضًا.

لن تعرف نفسك إلا من خلال الآخرين

عشت عمرًا ولم أكن أدري أنني أحسن الاستماع للغير. عرفت حينما أصبح المحيطون يرددون عليّ ذلك. وقتها فقط انتبهت. أظن هكذا نعرف أنفسنا. لا بما نظنه عن نفسنا، وإنما بالتفاعل مع الآخرين. نعرف أنفسنا بتلك العملية الديناميكية بالتواصل مع الغير، فنكتشف دواخلنا. يشبه الأمر اختبار المبادئ. أنت في قمة المثالية ما دامت مبادئك لم تُختبر. وحدها لحظة الاختيار الحر بين بديلين تُخبرك عن مبادئك الحقيقية. أظن الأمر كذلك مع تصوراتنا عن أنفسنا.

ارسم لنفسك في ذهنك ما شئت من الصور، لكن يظل مَن تتعامل معهم مرآة حقيقية لما أنت عليه. شرط أن يكونوا من الأسوياء. ممن لا يُصدِّرون صورًا سيئة عن الآخرين، ليشعروا بأفضليتهم. هكذا عرفت أنني منصتة جيدة، بالتواصل مع الآخرين، وحسبما يصفني المحيطون.

إذا أردت إسعاد أحدهم، فاعطه قلبك قبل أذنيك، فنصف السعادة أن نجد من يستمع لنا. مارك توين

أتصور الأمر دومًا كمن يشاهد فيلمًا سينمائيًا، فيتوحد تمامًا مع قصته وأبطاله. هكذا يمكنني توثيق تجربتي مع الاستماع للآخرين. كمسافر زار عدة بلاد، رغم أنه لم يغادر حدود بلدته قط. أبحرت أيضًا مع تجارب غيري، بالاستماع المخلص لهم. انفعلت بكل ملليمتر في كياني مع أحزانهم، فرحت لانفراجة كروبهم، كما لو أن حجرًا على صدري قد أُزيح عنه. كنت طرفًا في تجارب مختلفة دون أن أكون طرفًا مباشرًا فيها.

في تجربة الاستماع سعادتان

سعادة أن تجد من تهرع إليه لإفراغ صدرك إن كنت أنت المتحدث، وسعادة أن يختارك أحدهم لمشاركتك آماله وآلامه، إن كنت أنت المستمع

وكما الحال في السينما، فبعض الأفلام تخرج منها هائمًا تتفكر في الدنيا وأحوالها. وبعضها الآخر لا تخرج منها حتى بعد انتهائها، وتظل أسيرًا للقصة ومتأثرًا بها لمدة من الوقت. وهكذا هو الاستماع من القلب، أن تقدم انفعالاتك، لا حاسة السمع فقط، لمن يحكي، وتهدي وقتك ومشاعرك له، واضعًا همومك جانبًا. مؤجلاً حاجتك لتبادل الأدوار. لتخبره أنك هنا، معه، تسمع وتدعم، مع احتمالية أن تأسرك بعض القصص والانفعالات، لبعض الوقت. وهو ليس بالأمر الهين على كل حال. ومع ذلك أرى دومًا في تجربة الاستماع سعادتين، فمهما كانت درامية محور الحديث. فثمة سعادة من نوعٍ ما أن تجد من تهرع إليه لإفراغ صدرك إن كنت أنت المتحدث. وسعادة أخرى أن يختارك أحدهم لمشاركتك آماله وآلامه، إن كنت أنت المستمع.

ساعات يكون كتم الأنين أصدق

قرأت مرة تدوينة لفتاة، وصفت فيها حزنها، بأنه يستحي أن يعبر عن نفسه أمام أحزان الآخرين. فتتراجع عن البوح بآلامها، لتفسح مجالاً لأحزان مٙن حولها. تسمع شكواهم بينما تكتم أنينها. ظللت أراجع ما كتبته. فرأيتها تبخس نفسها الحق في التخفف. لكنني رأيت في قلبها براحًا يسع أوجاع الجميع. كنت أقرأ ما كتبته، ويتردد في خلفية عقلي ما غناه على الحجار: “ساعات يكون كتم الأنين أصدق”. قرأت ما كتبته وأنا أتمتم: “طوبى للمنصتين”، قرأته وأنا ألومها على كتمانها، وأتفهمه في الوقت ذاته. على أي حال وجدت تطابقًا ما بيني وبين الفتاة.

أن تسمع جيدًا أن تؤجل حاجتك للبوح

أعطاني الاستماع وأخذ مني. إلا أنه سلبني القدرة على الحكي. امتلأ قلبي بحكايات الغير، فتاهت حكاياتي وسطها. وددت كثيرًا لو أحكي حكايات شخصية جدًا، طويلة جدًا. ربما قد تكون غير ذات أهمية، لكنها جزء مني على أي حال. وددت لو أحكيها وأنا مطمئنة، أنني أبوح في المكان المناسب، في المستودع الآمن لحكاياتي. حيث لا إطلاق أحكام، ولا تنظير في غير محله، حيث لا نصائح تغفل الفروق بيني وبين الناصح، واختلاف حيواتنا. وددت لو أسترسل في الحكي دون أن يُكبِّلني الخوف، من أن الاستماع إلى حكاياتي قد يمثل عبئًا على الآخرين، أو أن المستمع ربما يدّعي الاستماع، غير آبه فعلاً لما أقول. بينما يردد في خلفية عقله: “متى ستغلق فمها وتنتهي تلك الحكايات السخيفة”.

لذا كنت أفضل دومًا عدم البوح، وإن سمحت لصدري أن يتخفف مما يحمله. أكتفي بالفكرة العامة دون خلفيات كافية، دون وصف دقيق، مع تجريد الأفكار من مشاعري. فأبدو جامدة، مسيطرة، لا أعاني. ورغم أني لا أجد أبدًا أي غضاضة، في أن يستسلم الإنسان لضعفه أحيانًا. فإنني أخاف دومًا من قسوة أن يتعرى المرء نفسيًا، أمام من لا يُقِّدر أوقاتًا شديدة الخصوصية والحساسية، كلحظات البوح.

ما تعلمته من الاستماع

أثمن ما يمكن أن تقدمه لشخص هو وقتك

على قدر ما أخذ مني الاستماع، فقد كان أيضًا سخيًا فيما أعطاني. فربما السمع ليس وسيلة لالتقاط الأصوات، والتفاعل مع محيطنا الاجتماعي فحسب. وإنما هو وسيلة للتعلم من خبرات الآخرين. علمني الاستماع تهذيب النفس، بأن أكبح جماح أنانيتي، وأفسح المجال للآخرين، للتعبير عن أنفسهم. أن أعطيهم مساحة آمنة للبوح، وأخرى للتقبل، وثالثة للتفهم. والأهم أن أعطيهم من قلبي مساحة للاحتواء.

تعلمت أن أثمن ما يمكن أن تقدمه لشخص هو وقتك. ذلك الكنر الثمين الذي لا يُسترد، ولأنه أحمق من يهدي كنزًا ثمينًا لمن لا يستحق. فقد علمني الاستماع ألا أهدر وقتي، إلا مع من أهتم فعلاً لأمرهم. أن يكون وقتي وانفعالي للأركان الأساسية في حياتي وحسب، وألا أشعر بالذنب لذلك.

أما أقسى درس تلقيته من حُسن الاستماع، فهو ألا أنسى نفسي واحتياجاتها. كان قاسيًا لأنني تعلمته بالطريقة الصعبة. بعد فقدان قدرتي تدريجيًا على الحكي؛ لاعتياد البعض على دوري كمستمعة، ونسيان حقيقة أن كل مستمع يحتاج أيضًا لمستمع. وأظنني أبلى حسنًا في التدريب على تبادل الأدوار، والتعود على الحكي.

وإن كنت أقدر أحب تاني.. هحبك إنت

على قدر صعوبة أن يكون المرء حاضرًا دومًا، وفي أحسن حالاته الذهنية للاستماع للغير. إلا أنني لو كان لي الخيار، بين أن أكون مستمعة أو حكَّاءة، لاخترت بلا تردد الاستماع للآخرين. على طريقة الست: “وإن كنت أقدر أحب تاني.. هحبك إنت”. إذ أعتقد أنه لا أجمل من أن يعطي المرء غيره الشعور بالأمان للبوح، ولا أنبل من أن ينحِّي المرء أحزانه جانبًا. ليهدي وقته وانفعالاته ومشاعره لأحبابه.

ولو كان لي فقط إضافة تعديل على اختياري، لأضفت إشعارًا بضرورة ألا ننسى حاجة من يسمعنا لأن يُسمع، وأن ندعم بقوة من لا يطلب الدعم. وأن الدعم، كل الدعم، يمكن أن يكون فقط في أن نهدي أحبابنا وقتًا، للسؤال الحقيقي عن أحوالهم، دون الاطمئنان سريعًا لصدق إجابة “أنا بخير”. الدعم كله يمكن أن يكون في دردشة دافئة نشارك فيها أحبابنا تفاصيلهم، ونستمع إلى حكاياتهم، فنحميهم من أن يتسلل إليهم الشعور القاسي بالوحدة. الدعم لا يحتاج أحيانًا إلى أفعال بطولية، بقدر ما قد يتوفر في استماع مخلص من القلب وحسب، لأنه كما قال مارك توين: “نصف السعادة أن تجد من يستمع إليك”.

المقالة السابقةفقط كنت أحتاج أن أُدلل
المقالة القادمةدليلك الفني لفرح بأقل انهيارات عصبية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا