تمرير الحكمة في زمن الآيباد وكنز سلمى المفقود

1388

 

بقلم/ منار هزاع

 

هناك تعبير في اللغة الإنجليزية هو imparting wisdom ويعني حرفيًا تمرير الحكمة. يستعمل عادة مفهوم تمرير الحكمة في سياق تمرير خبرات من سبق لهم الخبرة أو المعرفة بأمر ما، فتمرر الأم حكمتها لابنتها الأم الجديدة، ويمرر الصديق الحكمة لصديقه وهكذا. ومنذ فترة ولسبب ما يلازمني هذا التعبير.

 

أثناء قراءتي للكثير من كتب الأطفال العربية أجد أن شيئًا ما ينفرني من القصة، وسرعان ما يرن في أذني تعبير “تمرير الحكمة”. جميعنا نحتاج إلى الحكمة والمعرفة ولكن تمرير الحكمة للأطفال في زمن الآيباد واستخدام الإنترنت يجب أن يأخذ شكلاً آخر تمامًا.

 

المشكلة الحقيقية هي أن وجود مثل هذه الكتب بشكلها الحالي -سواء كانت إصدارات حديثة أَم أعيدت طباعتها- يعني أن الكاتب يفترض أن الطفل بحاجة لتمرير الحكمة من الكبير، وأنه غير قادر على استخلاصها بنفسه. الطفل بطل القصة غالبًا ما يكون ضعيفًا، أو لا حيلة له، أو غاضبًا، أو حزينًا أو مزهوًّا بنفسه. ويأتي صوت الحكمة دائمًا واضحًا من خلال الكبير الناضج في القصة ليحل المسألة كليًا، أو بشكل جزئي ويترك للطفل باقي الحل على أحسن الظروف. وفي رأيي المتواضع أن التمسك بمثل هذا الأسلوب يعني أننا ما زلنا نتمسك بالعيش في عالم منقرض لا محالة.

 

المشكلة في وجهة نظري ذات أبعاد ثلاثة:

1- صياغةهذه الكتب من خلال مفهوم هرمي يعطي للكبير ميزة إضافية عن الطفل: ميزة المعرفة الحكيمة. في حين أن واقع اليوم يقضي بأن فرصة حصول الطفل على المعلومات والخبرات والمعرفة الحكيمة، تكاد تكون مساوية وموازية لفرص الكبار، إن لم تكن أكبر. فتنتفي تلك الميزة تمامًا، ويصبح طفل اليوم قادرًا على استخلاص معلومات أكثر وأكبر من استيعابنا حين كنا أطفالاً. ولكن للأسف، ما زلنا نرى الكثير من الكتب المقدمة للطفل العربي تؤكد هذه الصيغة التي تضع الطفل موضع المتلقي السلبي الذي لا حول له ولا قوة.

 

2- محاولة صياغة حل معين أو طريقة محددة لحل مشكلة ما (المشكلة أو المعضلة المطروحة في القصة)، من خلال صوت شخصية الكبير الناضج، وعلى الطفل اتباع هذا الحل. في حين لا يجب أن يكون دور الكبير في أدب الأطفال هو تقديم الإجابات، خصوصًا تلك الإجابات التي تتسم بالمثالية وتضع الطفل موضع المتلقي السلبي في القصة. خصوصًا أنه لا يوجد في الواقع إجابات مثالية أو نموذجية لحل المشكلات.

 

ما يحتاجه الطفل حقا هو أن يقوم الكبير الناضج في القصة بطرح أسئلة قادرة على تحفيز الصغير للبحث عن إجابة. ويتميز هذا الدور بالأساس في قدرته على تمكين الطفل وحثه على حل المشكلات بنفسه، حتى وإن أتى الحل مضحكًا أو غريبًا أو غير مثالي من وجهة نظر الكبار. كتب الأطفال ليست معرضًا لاستعراض الحكمة. إنما هي -إن شئنا- فرصة لتشجيع الصغار على التفكير النقدي والإبداع وتطوير مهاراتهم على حل المشكلات.

 

3- هنا نأتي لآخر بعد، هل نكتب للطفل أم نكتب للأهل؟ هل وجود الكبار في قصص الأطفال ضروري حقًا؟! هل وجودهم يأتي ضمن سياق الأحداث، أم أن وجودهم يخدم فقط فكرة تمرير الحكمة؟ هل يمكن أن يكون كل أبطال القصة من الأطفال؟

 

يجب أن نتذكر أن وصول الطفل للحكمة من خلال التساؤل والتجربة الذاتية، هو أعظم وأكثر تمكينًا للطفل. وأن الأطفال عادة يميلون للتعلم من بعضهم البعض أكثر مما يتعلمون من الكبار. فإن أتت الحكمة على لسان طفل كانت أقرب ما يكون للقارئ الطفل. ولكن للأسف هناك سمة غالبة في قصص الأطفال العربية، حيث يُخاطب الكاتب الكبير الطفل بلسان الحكمة، فيأتي خطابه أقرب ما يكون للأهل وأبعد ما يكون عن الطفل. وليس عدلاً أن نحسبها على الأطفال قصصًا. فتلك القصص هي أقرب ما يكون لكتيب التعليمات.

 

وكمثال على ما سبق أقدم لكم قصتين لنفس الكاتبة، الأستاذة الكبيرة فاطمة المعدول. في القصة الأولي “أنا وجدتي” (دار الشروق ٢٠٠٥)، بطل القصة الطفل “محمود” اضطر للعيش مع جدته “كريمة” لظروف سفر أمه. وفي بداية القصة يبدو أن القرار جاء على غير هوى “محمود”. وتتطور علاقة “محمود” وجدته ونرى بوضوح أن “محمود” قادر على تعليم جدته بعض الأشياء المهمة، من خلال خبرته كطفل يتعامل مع الإنترنت.

 

كما أنه تعلم أيضًا الكثير من الأشياء بنفسه عن جدته وطريقتها في الحياة ومشاعرها. تعلم بنفسه أن يرى كيف تضحي جدته لأجله وكيف تُعبِّر له عن حبها الشديد بطريقتها. ويجد “محمود” وجدته خلال رحلتهما صيغة للتعايش معًا، والاستفادة من خبرات بعضهما بعض. قصة رائعة لا أَمِلّ من حكايتها لأطفالي. تعطيهم إحساسًا بأهميتهم في حياة الآخرين، وأن الكون لا يدور حولهم، وفي ذات الوقت تعزز ثقتهم بتجاربهم وخبراتهم في الحياة.

 

أما القصة الثانية لنفس الكاتبة، وهي قصة “الكنز” (دار نهضة مصر ٢٠٠٦)، فتحكي عن الشيخ “عبد الحليم عمران”، الذي قرر إعطاء أبنائه الثلاثة كل ما يملك. حقيبة من الأموال والذهب وسفينة صيد حديثة وقطعة أرض. كانت قطعة الأرض بعيدة وبها كنز يحتاج من يبحث عنه.

 

وقد اختار الصبيان المال والسفينة وتبقت الأرض البعيدة من نصيب الفتاة “سلمى”. قبلت “سلمى” نصيبها بحزن وأسف، وعلى مدار القصة كلها تبدو “سلمى” بطلة القصة حزينة، قليلة الحيلة، ترجع كل فترة إلى أبيها باكية شاكية تتلقى منه الحكمة دون أن تفهم ما وراءها. إلى أن تعثر “سلمى” على الكنز بتوجيهات وإرشادات الشيخ “عمران” المستمرة من بداية القصة إلى نهايتها.

 

“سلمى” بطلة القصة لا تمُت بصلة إلى هذا الزمان، أطفال هذا الزمن ليسوا قليلي الحيلة، لا يكتفون بالتوجيهات دون شرح الأسباب. في القصة كنز من المغامرة وتحقيق الذات، لكنني لم أستطع مع الأسف أن أعثر عليه. الجانب الخاص بالتمكين لم يتحقق. فصوت الحكمة أعلي من صوت “سلمى” بكثير. و”سلمى” هي الطفل المخاطب في القصة، وفي نهاية القصة في اللقطة الوحيدة التي اعتقدت “سلمى” أنها وصلت أخيرًا للكنز يأتي صوت الحكمة واضحًا يُعدِّل عليها ويمرر لها المزيد من حكمته.

 

***

في مقاله الممتع جدًا والمهم يتساءل بيتر هانت Peter Hunt أستاذ وناقد أدب الأطفال الإنجليزي المرموق: هل نكتب للأطفال لأجل إمتاعهم، أم نكتب لنعطيهم التعليمات؟ ومن خلال المقال يناقش هانت نقاط مهمة: ما هو مفهوم الجيد والسيئ عند الكاتب؟ وهل نتفق جميعنا على مفاهيم واحدة؟ من يحدد أن الكتاب للطفل؟ هل الكاتب هو من يقوم بهذا؟ هل هي اللغة أم وجود رسومات؟ وأيضًا كيف نصنف الأطفال جميعهم تحت مظلة واحدة؟

 

يؤكد هانت أن ما يدخل عقول أطفالنا هو مسؤوليتنا، تمامًا كالذي يدخل معدتهم! وينادي في نهاية مقاله بأهمية دراسة أدب الطفل، أو الأدب المقدم للطفل بمعنى أصح، وأن هذه الأهمية تأتي من إدراكه للمسؤولية التي تقع علينا تجاه الأطفال وتطورهم بالأخص، وتطور ثقافتنا كمجتمع على العموم.

 

لدينا الكثير بالفعل من القصص العربية المميزة للأطفال، وميراث رائع من الحكي. ولكنه غير كافٍ. فالمنافسة صعبة، فما بين الكتب الإنجليزية المتقنة وألعاب الآيباد والفيديو المبهرة، يأتي الكتاب العربي في ذيل اهتمامات الطفل العربي مع الأسف. فهل يمكن أن نشهد حملة تطوير لكتب الأطفال العربية في الفترة القادمة؟ هل يمكن لـ”سلمى” أن تعثر على الكنز بنفسها؟ أعرف أنه ممكن، وأن الأطفال في زمن الآيباد لديهم كنوز كثيرة. يبقى فقط أن نؤمن بذلك، وبحتمية التطوير.

 

هل نكتب للأطفال لأجل إمتاعهم، أم نكتب لنعطيهم التعليمات؟

 

المقالة السابقةدليلك لاختصار وقت المطبخ في رمضان
المقالة القادمةاكلات عزومات رمضان، وافضل منيو عزومات رمضان بالوصفات
كلامنا ألوان
مساحة حرة لمشاركات القراء

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا