“حزمة من الأعصاب الثائرة باستمرار، سلك عارٍ إن لمسته يصعقك” هكذا يمكن وصف أمي باختصار شديد، طفلة وحيدة نشأت في كنفها، لا أقارب، لا أصدقاء، لا اختلاط مع جيران، لم أدرك أن هناك شيئًا غريبًا، إلا عقب سنوات عديدة، حين بدأت في الاحتكاك بالعالم الخارجي، من المدرسة إلى الكلية ثم العمل، فوجئت أن ثمة خطبًا، ليس الجميع مثل أمي، كان هذا الاكتشاف صادمًا لي.
هل تعرف تلك اللحظة حين تضع الأجزاء إلى جانب بعضها البعض، فتتكون لديك صورة كاملة؟ حدث لي هذا حين قرأت عن أعراض كرب ما بعد الصدمة، فاكتشفت أنني لم أكون سوى رفيقة لسيدة تحمل عددًا ضخمًا من الكربات عقب صدمات كانت كفيلة بالقضاء على كثيرين، صحيح أنها لم تنتحر أو تهرب، لكنها أيضًا لم تخرج من التجربة سالمة.
طفلة القرية المشوهة
كانت الصغيرة بين أشقائها، في تلك القرية الريفية البسيطة، أو بالأحرى الكفر، ارتفعت درجة حرارتها ذات ليلة بشدة دون أن ينتبه أحد، لتصاب إصابة بالغة، هكذا فجأة، فقدت عينها، انحسرت الرؤية إلى حد بعيد وأصبح وجهها مشوهًا بفعل الحرارة اللعينة بين ليلة وضحاها، مسألة لم تكن مستساغة أو مفهومة لمن حولها في القرية الصغيرة، انهالت السخرية والتقريع من الأطفال الصغار، وكذلك السيدات الكبار.
كان والدها هو الوحيد تقريبًا الذي يدللها ويعاملها معاملة خاصة، لا تذكر أمي حنانًا يُذكر، أو تدليلاً نالته في طفولتها إلا من ذلك الرجل، الذي فُجِعت بفقده فجأة، الوحيد الذي كان يتقن الربت على كتفها، الذي كان يضم كفيه ليضع وجهه من ناحية وتضع وجهها هي من ناحية أخرى، فلا ترى في العالم إلا وجهه ولا يرى إلا وجهها.. توفي بعمر الـ30.
وقفت هناك تودع جسده على عتبة منزلها الريفي، رحل، لتجد نفسها وسط أسرة تنكر عليها إصابتها، تكره ذلك المشهد وتلك الطفلة التي تجلب لهم التهكم، هكذا جرى إرسالها بعيدًا عن القرية إلى عاصمة لم تكن تعلم عنها أي شيء ..فقط لتبقى بعيدًا.
تتحدث أمي عن ذلك اليوم الذي عادت فيه إلى قريتها هروبًا من المستقر الجديد في القاهرة، تذكر على استحياء كيف كان الجو باردًا، كيف رق لها سائقو الموقف وأوصلوها مجانًا، تذكر كيف كانت تركض حافية في الغيطان نحو البيت دون شبشب في جو بارد وملابس مبللة، من فوقها كانت السماء ترعد وتبرق، أحيانًا تشعر بأثر الوحل على قدمها وهي في الطريق صوب منزلها، تذكر كيف استقبلتها والدتها بتجهم واستنكار، كيف أعادتها في اليوم التالي إلى منفاها.
خوف من البرد والمطر
وحدها ولسنوات طويلة عملت وحاولت تجاوز الفواجع التي لاحقتها في عمر صغير، لكن القدر لم يكن رفيقًا بها للغاية، حيث تعرضت للكرب الأكبر والأعظم في حياتها، ذلك الرجل الذي أحال حياتها جحيمًا، زواج فطلاق فطفلة في تسعة أشهر فقط، وحدها كانت تعمل، وحدها كانت تلد، وحدها كانت تربي، وحدها كانت ترى من بعيد ذلك البعيد يلقيها وصغيرتها كقطعة كلينكس تخلص منها ليستأنف حياته من جديد، كأنها لم تكن، يكوِّن أسرة ويقطن في الشارع المجاور لشقته، أسرة ليست وصغيرتها جزءًا منها، عليها وابنتها أن تراهم جيئة وذهابًا.
كان الحدث الخاتم لسلسلة صدماتها زلزال 92، ما تزال تذكر ذلك اليوم حين اهتزت جدران المبنى الذي تعمل به، كنت بصحبتها حينها، تذكر كيف حملتني وانطلقت عبر سلم خلفي حديدي، كان يهتز بعنف، كان صوت اصتكاك الحديد مرعبًا، كانت خائفة جدًا في هذا اليوم، وظلت لسنوات طويلة لاحقة تنظر لي بكثير من الخوف، كيف كان كنزها الصغير الجميل مهددًا بهذا الشكل؟!
حتى الآن تعاني أمي من أرق مزمن، حتى الآن تهاجمها وساوس انهيار المنزل فوق رأسها ليلاً، حتى الآن تخشى الرعد والبرق والمطر الشديد، تكره الشتاء والغيوم، يواصل عقلها الباطن اتخاذ إجراءته الاحترازية، بكراهية أسباب المأساة، هي تكره جنس الرجال عمومًا، تكره مظاهر الأنوثة وتعتبرها مدعاة للإحراج والخجل، لا تشعر بسعادة تُذكَر حين ترى إحداهن تتزوج، بما فيهم أنا، تخشى أخبار الوفاة، وتخشى الأمهات القاسيات وتطاردها الهواجس أن تكون منهن يومًا ما، ما يجعلها تفرض حماية مضاعفة تقضي على أي خصوصية أو حياة مستقلة لي.. ولا ألومها أو أمنعها.
يومًا ما كانت هادئة وسعيدة
خمسة فواجع رئيسية في حياتها، خمسة أيام، يوم فقدت جزءًا من جسدها، يوم فقدت والدها، يوم نُفيت، ويوم شهدت طلاقها، ويوم راحت تركض هروبًا من الموت. تراكبت واحدة فوق أخرى، جعلتها امرأة أخرى، تؤكد لي أنها لم تكن دائمًا هكذا، يوما ما كانت تستمتع بالموسيقى، يومًا ما لم تكن تعاني من الآلام المزمنة بمعدتها وجسدها، لفرط القلق والتوتر، يومًا ما كانت هادئة وسعيدة، تنام جيدًا وتستيقظ براحة، صحيح أنها لا تذكر توقيت هذا اليوم تحديدًا لكنها تميز الأيام السيئة بضدها.
كانت الأحداث ثقيلة جدًا على كتف أمي، ثِقَل لم يقترن برفاهية طبيب نفسي يعالج، أو صديقة تربت على الكتف، فأمي ترى أنه لا أحد جدير بالثقة، ولا أحد يحمل نوايا طيبة عمومًا. خلَّفت الصدمات المتعاقبة لدى أمي عددًا غير قليل من الأزمات النفسية التي طابقت أعراضها مع ما رأيته لديها.
ترى أمي أن العالم مكان غير آمن، عصبية شديدة ومستمرة، لا تحتمل أمي النقاش أو النقد، تكره الخروج أو التغيير، تواصل عزلتها وتشكو لي كثيرًا من التشتت وانعدام التركيز، مع كثير من النكد والقلق والتوتر الشديد الذي يحيل حياتها وحياتي جحيمًا، حزن يسيطر عليها منذ لحظة الاستيقاظ وحتى لحظة النوم، لا تزال تدور في دوائر بلا نهاية و تعجز عن استيعاب ما جرى لها، بينما أقف قبالتها عاجزة، فكل محاولاتي لإسعادها أو تغيير مزاجها العكر دومًا تفشل، وتتحطم عند صخرة “سيبني على راحتي”.
لا شيء منك يهم
حياة كاملة تعيسة أثَّرت عليَّ بالتبعية، الحياة مع شخص مكروب بهذا القدر تجعلك طوال الوقت على أطراف أصابعك، تتحدث وتعلق وتعبر بخوف وعدم ارتياح، تفقد الثقة في نفسك تدريجيًا، يجعلك طوال الوقت على أهبة الاستعداد، أنت لن تنام جيدًا في بيت قلق، لن تشعر أنك كافٍ أبدًا، مهما فعلت ومهما قدمت، لا شيء منك يهم، أنت لست السبب أصلاً، أنت في المكان الخطأ وحسب.
تنزعج كثيرًا من هلعها وخوفها غير المبررين تجاه أمور تافهة كثيرة، كصوت مفاجئ في الشارع الخلفي، أو باب أُغلِق بعنف، حين تقول إن الأمر تافه تصبح أنت نفسك تافهًا ولا تُقدِّر الناس أو تشعر بآلامهم، تلك الروح العالقة دائمًا بأنفها وطاقتها المنعدمة لتحمل أي شيء، لا تفاهم، لا ترفيه يُذكَر، مشاعرها المُخدَّرة التي لا تفرح بأي جديد، حتى لو كان حصولي على مجموع خرافي في الثانوية العامة أو معرفتي لجنس مولودي الأول، ردود فعل باردة لا تتناسب مع حميتها في تربيتي ورعايتي حتى تلك اللحظة.
لا أبالغ حين أقول إنني لم أحط بسعادة كاملة أبدًا بسببها، هي دائمًا حزينة ومستاءة وغاضبة، حتى في أكثر المناسبات سعادة وجمالاً تجدها حزينة ومنزوية، يجعلني هذا أترك كل جميل خلفي وأحزن لذلك القلب الذي لم يستحق أبدًا كل تلك المآسي. أنا لا أرغب إلا في رؤيتها سعيدة وراضية.. وهذا لا يحدث أبدًا، ليس الأمر سوى حفر في المياه.
تجربة كتلك على ما بها من راحة منعدمة تقريبًا، تجعلك تغفر ما لا يُغفَر، وتُقدِّر أمورًا يعجز الآخرون عن غفرانها، أنت طوال الوقت تلتمس الأعذار وتتعامل مع الحدود القصوى من ردود الفعل والانفعالات، التي يصبح من بعدها أي شيء يصدر عن أي شخص بسيط وهين.
تجربة كتلك تجعلك تثمن دور العلاج النفسي في الحالات المماثلة، فهي لن تنقذ شخصًا واحدًا من مأساته، ولكنها ستنقذ بالتبعية عددًا غير معلوم يقعون تحت مسؤوليته، يتأثرون بضائقته ونفسه المتعثرة.
أحييك على صدقك وشجاعتك ومثابرتك. من أصدق وأجمل ما قرأت. ربنا معاكي ويطيب خاطرك وخاطر والدتك ويعوضكم خير
صادقة ومؤلمة جدا..
إنت شجاعة إنك بتواجهي مشكلة كبيرة زي دي..
وبدعيلك إنت والدتك تتعافوا من كل دا
وإنت تحديدا عشان تحافظي على نفسك وأسرتك من مخلفات الألم دا..
ربنا يسعد قلوبكم ويزيح عنها الهم والغم
وربنا قادر على كل شيء
المقال فعلا جميل جدا و صادق وشجاع ..اشكرك على مشاركتنا تجربتك
ممكن نعرف اخدتيها علي طبيب نفسي ولا لا… قلبي معاكم… ربنا يعينكم ويهون القواسي
عاش جدآ كان الله فى عونك الله لتعبك ولتحملك ولكل شعور مريتى بيه ولكل طاقه استنذفتيها ولكل محاوله منك❤
بتمنالها تتعالج وتروح لطبيب نفسى انتى كمان ممكن تروحى لاخصائى كويس تنفسى عن اللى اتحملتيه
This design is incredible! You obviously know how to keep a reader entertained. Between your wit and your videos, I was almost moved to start my own blog (well, almost…HaHa!) Wonderful job. I really enjoyed what you had to say, and more than that, how you presented it. Too cool!