بقلم: روزالين جاد
يشكو الكثيرون نُدرة الأصالة، ينادون باحتياجهم للتواصل مع بشر حقيقيين. ولكن مَن منا مستعدٌ لتحقيق هذه الأمنية؟ مَن منا قادرٌ على استيعاب الآخر بكل ما يحمل بداخله؟ بسقطاته وضعفه وشذوذه وانهياره ومشاكل طفولته ومراهقته ومراحل نضجه؟ مَن منا قادرٌ على تقبُّل الحمولة كاملةً؛ لا فقط ما يتناسب مع معتقداتنا منها؟ بل مَن منا يقدر أن يقوم هو بالكشف عن ذاته بكل مكنوناته، وأن يتعرَّى تمامًا أمام الآخر ليكشف نفسه كما هو، لا كما يريد للآخر أن يراه؟
أشعر أحيانًا أن التخفي مهارة، كالتمثيل؛ قد يتقنها البعض، وقد يجيدها البعض الآخر بمستوى أقل، ولكن في النهاية كلنا مُمثِّلون باختلاف أدوارنا التى نختارها بعناية لتحقيق رغباتنا وتصوراتنا عن ذواتنا وعن الآخرين. وكأنَّ الحياة فيلمٌ روائيٌّ طويلٌ، ينتقي كلٌ منّا مَشاهِدَه التى يرغب في كشفها للآخرين حسب تعامُله مع تجاربها المختلفة؛ إذ يتعامل البشر بطُرُق مختلفة مع تجارب الحياة، كالفقد أو تحقق الذات أو استقبال مولود جديد. وبالرغم من أن محطات الحياة قد تبدو فى ظاهرها مُكررةً، إلا أن تفاعل كل شخصٍ معها يخلق قصة جديدة مثيرة جدًا للاستكشاف.
وكسائر التجارب الحياتية، يُشكلنا الألمُ بطُرُق إعجازيَّة تاركًا بصمته في رحلة حياتنا وأعمارنا؛ فتارةً يحولنا إلى أشخاصٍ أكثر زُهدًا وتواضعًا، فتُبكينا كلمة وتهزمنا ذكرى، وتارةً يصنع منّا أحجارًا ميتةً لا يُبكيها الزمن لأن دموعها نفدتْ أو لأنها فقدت أعز ما تملك، فلم تعُد تبكي على أي فقد أو خذلان. أعتقد أنني أنتمي أكثر إلى الفريق الثاني، يزيدني الألم صلابةً وحِدةً، بل أنني أرتدي قناع القسوة كوسيلة دفاعية وإجراءٍ احترازي في كل تجربة جديدة أخوضها، فقط لأحفظ لنفسي مساحة كافية من الأمان.
أرتدي كل صباحٍ قناعًا غاضبًا لأحمي نفسي من مُتحرِّشي الشارع والمواصلات العامة؛ حيث إن في مجتمعاتنا الشرقية تحتاج الفتاة لا أن تحمي متعلقاتها الشخصية من السرقة فقط، بل أن تحمي جسدها الشخصي من الانتهاك أيضًا. ثم تتحول ملامحي إلى الجُمُود لما تتطلَّبه وظيفتي من صرامة، حتى يفاجئني الأطفال بأحضانهم فتنهار صلابتي، أو تتقاسم معي فتاة لا أعرفها بأتوبيس النقل العام طعامها، فأعتذر بابتسامة مَن فَهِم الدرس. وكأن الله يُرسل لي رسائل يومية فقط ليقول إن ما يُضجرني ليس هو الشائع ولا هو النسخة الأصلية، بل إن نسخة الإنسان الأصلية نسخةً مُحبة مِعطاءة لا تطلب ما لنفسها، بل تتأنَّى وترفق.
فأين ذهبت تلك النسخة من البشر؟ النسخة التى تهتم بالإنسان لا بممتلكاته أو منصبه أو مهاراته، ولا تُدين الإنسان بل تُقوِّم سلوكه وتُعين ضعفه وسقطاته. أتذكر نكتة قالها لي أحدهم: “مش عارف أيام زمان إيه اللي الناس نفسها ترجعلها، لما أول أخ جه الدنيا قتل أخوه”.
ضحكت حين سمعتها لأول مرة، ولكنني قلت في نفسي: ولكن أول شعور شعر به الإنسان الأول هو الوَحشة والوحدة، حتى خلق الله له معينًا نظيره. وكأن المعية هي أصل الشعور، لا الغدر. يحتاج الإنسان دائمًا إلى إنسانٍ آخر يشاركه ولو امتلك الجنة بأكملها.
أحب فؤاد حداد حين يقول:
“إيدك تكون أخشن .. قلبك أرقّ”
أتساءل دائمًا، كيف يجد الإنسان التوازن بين الصلابة والرقة؟ كيف يقف على أرضٍ مُحايدة بين نسخته الأصلية والنسخة التى صنعتها قساوة تجاربه؟ كيف ينجو دون أن يتحول هو نفسه إلى مُجرمٍ آخر؟ لا أجد إجابة إلا بالنظر إلى العواقب. لا فقط على المستوى العالمي كالحروب والنزاعات، بل أيضًا على المستوى الشخصي. إلى أي شيء قادتنا القسوة والصلابة؟ وإلى أي مدى نحتاج أن نتظاهر بالقوة؟
علمونا أن الشدائد تختبر معدن الإنسان وتُقوي ساعده. ولكن لأي مدى نحتاج أن نتخلى عن هشاشتنا الإنسانية؛ وكأننا ندفن أشخاصًا آخرين بداخلنا لنخرج إلى العالم بأجسام معدنية صُلبة بلا رُوْح، تمامًا كما الإنسان الآلي؟ وماذا إذا تحول الجميع إلى نسخ صلبة قاسية لا تُظهر دواخلها ولا تُفصح عن ضعفها؟ كيف يقدر البشر على تعاملاتهم اليومية إذا خلت من اللطف والحنية والتعاطف والمشاعر بشكلٍ عام؟ كيف يحيا الإنسان حياة يقتطع فيها أجزاءً من نفسه ليتوافق مع محيطه؟
أحب تشبيه الإنسان بالمحيط؛ حيث قرأت ذات مرة أن الموجات الداخلية للمحيط هي ما تصنع الموجات السطحية التي نراها على الشاطئ، فالموجات الداخلية هي موجات خفية تحدث في عمق المحيط لتنظيم حرارة المياه وحركتها، وبدونها يتحول ماء المحيط إلى مياه راكدة بلا حياة أو تجدد. قد تعلو موجاته أحيانًا وقد تحركها الريح مُحدِثةً ثورة بداخله، ولكنها في أيامٍ أخرى تهدأ لنجد أمواجه تغازل الرمال وتحمل السفن من بلد لبلد، وتُمتع الصغار بالسباحة في المياه الدافئة. لا يكتمل تكوين البحر دون أمواجه، داخليةً كانت أو سطحيةً. هكذا هي التجربة الإنسانية أيضًا؛ لا يستطيع الإنسان أن يتخلى عن صراعاته الدفينة، ولا يجب أن يخجل من موجاته الداخلية، بل أن يحيا حياةً حقيقيةً أصيلةً تعبر عن هويته بكل ما شكلها من صراعات وإنجازات وسقطات وانتصارات، لأن هذه الأحداث هي ما تصنع قصة لفيلمه ومعنى وقيمة لحياته، هذه الموجات الداخلية تُشكل موجاته السطحية التي يستمتع بها كل من يقترب منه سواء بالمشاهدة أو السباحة.
فربما إن تواصل الإنسان مع نفسه بالشكل الكافي وتقبل سقطاته وانتصاراته، يقدر حينها فقط أن يجذب إليه أشخاصًا حقيقيين متصلين بذواتهم وقادرين على تحقيق تواصل أعمق مع الآخرين.
المراجعة اللغوية/ عبد المنعم أديب.