أبي يراني فتاة سيئة السمعة

1721

نحن نتحدث عن آلامنا بغية الخلاص، وهذا ما لا يفهمه الكثيرون، وبدأ كل شيء يوم رأى أبي أنني فتاة سيئة السمعة.

أتذكر صديقة لي استنزفتني بسؤالها عن أحوالي دون أن أجيب بأي تفاصيل ذات عمق، يتخطى السنتيمترات بروحي، لتنعتني بعدم الثقة فيها بشكل كافٍ لمشاركتها أحزاني. بينما تنهال هي عليَّ بتفاصيلها لما تتلقاه من تفهم مني ومحاولات لإيجاد سبل للحل. لأعترف لها أني وإن تكبدت عناء الحكي فسأطالبها بإيجاد حلول، بينما أنا عليمة بعدم امتلاكها لأي حلول تناسبني. هذا بينما سيتبع تحدثي عن كل هذا الألم دخولي بحالة نفسية سخيفة لن تفهمها كذلك، وسألومها داخليًا لعدم فهمها، بينما اجتررت أنا كل تلك المشاعر السلبية، وكل المشاهد البصرية تزامنًا مع نطقي للكلمات. رفضت بشدة أن أحكي فأتألم اختياريًا، وهذا ما لن أرضاه لنفسي أبدًا.

أتذكر صدمتها لكلماتي واتهامها لي بالعملية الشديدة، بينما تكتفي هي بالمؤازرة و”المعلش” في مواقف مشابهة. أرى أنا الأمر يتخطى هذه “المعلش” السخيفة، وأرى حديثي عن الأمر إن لم يصب في حيز إيجاد حلول مجدية سيكون مجرد متاجرة بالحزن، بلا بد وبغية اللا شيء، فلن تضيف لي مشاعر الشفقة أو التفهم أو القلق التي ستعلو ملامح المتلقي سوى مزيد من مشاعر الشفقة لحالي، وهذا ما لا أحتاجه حقًا. فلقد اكتفيت من هذه المشاعر، بينما مررت بهذا الكرب الأكبر ونقطة التحول الحقيقية بشخصيتي، على منوال فيلم Eternal Sunshine of the Spotless Mind، فأنا فقط أريد أن أتخلص من هذا الألم المختزن وهذه الأفكار، وإن كان جراحيًا حتى، وهذا ما لم ولن تفهمه أبدًا صديقتي.

وكما قال صلاح جاهين بأغنية مفترق طرق من فيلم عودة الابن الضال.

آدي اللي كان

كنت بإجازة عامي الثالث بالجامعة المرموقة التي يفتخر أبي في كل المجالس أن ابنته التحقت بها بمجهودها ومثابرتها. كان لي عقل عملي يتناسب مع كليتي العملية، وهكذا قررت حينها التعامل بعملية مع عريس الصالونات الذي تقدم لي. وافقت على مقابلته لأحلل أفعاله وتصرفاته لاحقًا كونها لشخص مختل عقليًا بشكل واضح! لأصارح أبي بكل وضوح أن هذا العريس لا يناسبني، وقد كان لي من الأريحية مع أبي أن أخبره بالتفاصيل. أخبرته بهذا متوهمة تفهمه للوضع، فلم أتخيل أن ينهال عليَّ بكل هذه الشكوك المريبة.

اقرأ أيضًا: ما يفوق الوصف والاحتمال

وآدي القدر

يعمل أبي بالقضاء، وبينما يتعامل طيلة يومه العملي مع مجرمين أو محامين يزيفون الحقائق، حتى تربى لديه عقل مرتاب ومشكك إلى أبعد حد. كنت أعلم هذا سابقًا، ولكن كنت أظن أني في منأى عن ذلك، فكل الحقائق والوقائع تصب بصالحي. لكن على ما يبدو أن هذا لم يكن كافيًا بعين والدي.

فور إخباره برفضي للعريس حتى انهال عليَّ بالتُّهم، كوني على علاقة بشخص آخر! لأغضب وأثور لشعوري الجام بالظلم، بينما كنت فتاة مثالية من المنظور المجتمعي، تتحرك بوضوح إلى أماكن محدودة (من المنزل إلى الكلية وبالعكس)، تتلقى كل المهاتفات أمام والديها دون خوف أو حذر، فهي لا تملك ما تخفيه من الأساس. أتذكر جيدًا فور دخولي للكلية وسؤال زملائي عن رقم الهاتف الذي يستعملونه للوصول إليَّ لإنهاء البحث المطلوب منا بالجامعة، فإذا بي انزويت جانبًا لأسأل والدي أن يدبرني ما إذا كان الأفضل إعطاءهم هاتفي الجوال أم تليفون المنزل، ليفضل هو بهدوء إعطاءهم رقم هاتفي الجوال.

كنت أظن أن هذه الشفافية التي بيننا ستحميني من تشككه وريبته، لكن ما حدث كان حقًا مفاجأة.

وآدي المصير

أتذكر كونه رفض تمامًا غضبي الذي تسبب به شعوري بالظلم، بينما ينهال عليَّ بالاتهامات، ويزوِّر الحقائق ليرويها من وجهة نظره هو، والتي كانت مسممه بالكامل، لينهال عليَّ بضرب مبرح. أتذكر كوني امتنعت حينها عن البكاء بينما كان يضربني. كنت أشعر بجمجمتي تتهشم تحت كفه، وبطني تئن مع كل ركلة منه تعصر أحشائي، ولكني أبيت البكاء حتى لا أشعره بمزيد من الانتصار. كنت أنا الضعيفة بدنيًا في هذه المواجهة، وقد كان هذا جليًّا للجميع، لكني تمسكت بنظرات التحدي كآخر محاولاتي لحفظ ماء الوجه.

توالت صفعاته النفسية، بينما تدخل عمي ليفهم ما يحدث، فإذا به يدنس سمعتي أمامه بكل أريحية، ليتركني مظلومة من أقرب إنسان لي، سيئة السمعة باعتراف أبي، مصدومة في تمثال الأب الذي تهشم، بينما أصابت شظاياه كل جزء بجسدي وروحي.

أتذكر مطالبة والدتي بالطلاق لكونه قد جن، ليقذفني بتهم مماثلة ليس عليها أي دليل، أتذكر تدخل أهل والدتي لإنقاذ المنزل ومنع وقوع الطلاق، ومهاتفة خالتي لي لأهون من الأمر، فلا أكون السبب لهدم المنزل، بينما هو بوجهة نظرهم مجرد أب يخاف على ابنته ويربيها. لتعود أمي إلى المنزل من جديد، بعد أن اجبرت على ابتلاع حلم الخلاص الوحيد بانفصالنا في منزل آخر، يكفيني كونه عادلاً وعاقلاً. تهشم هذا الحلم، ولم يعد متبقيًا لي إلا واقع كوني مظلومة، مُهانة، بأب ظالم، وبالتأكيد ليس لي ظهر أستند عليه، وليس هنالك من سبيل للهروب.

كانت الآلام الملاحقة لهذه الليلة لا تقل عنها نظريًا، ولكني كنت كالجسد الميت الذي لا يهمه تلقيه مزيدًا من الضربات، قرر هو سحب هاتفي الجوال، بينما راجع كل رسائلي، فلم يجد أي شيء يؤكد شكوكه غير المبررة، ولكنه قرر رغم ذلك التمسك بها. وهذا ما لم أسامحه عليه أبدًا لخمس سنوات تلت هذه الليلة، اخترت فيها أنا اليتم، بينما حاول هو تحسين صورته بكل الصور، كل الصور أيًّا ما كانت مكلفة ماديًا ومعنويًا له، كل الصور إلا أن يعتذر عن سوء فهمه وخطئه الجسيم، بينما تمسكت أنا بحقي بالاعتذار.

أتذكر كوني بكل وعي قررت حرمانه من ابنته الوحيدة، الجميلة، الناجحة، المحببة للجميع، حرمته من أي بوادر حنو لمرض أصابه أو سفرية أردتها فوافق عليها دون تزمر، أو ابتسامة ترتسم على شفتي لخطوات يخطوها تجاهي بهدية باهظة الثمن. حرمته كذلك من فرحة احتضاني فور حصولي على البكالريوس بحفلة تخرجي، فقد كان لي سببًا وجيهًا، حيث رأيته لا يستحق زهو امتلاكه لفتاة ناجحة مثلي من الأساس، بينما لم يزرع بها أي بذور للنجاح، لم يزرع سوى مثبطات همم ونار داخلية لا تنطفئ، تأكلني وتحيل كل ما حولي إلى مسببات غضب، بينما لا أشعر بأي أمان يذكر، بأي سيناريو يجمعني بأي  بشري أيًّا ما كان.

أتذكر كوني اجتزته لأحتضن والدتي، والذي كان لمؤازرتها النفسية حينها عظيم الأثر والامتنان بنفسي، فقد كانت بحق جيشي الوحيد. حاولت على مدار سنوات وبوعي كامل مني رد الصفعات لروحه كمحاولة للشعور بعدم الانهزام، لكن ما لم أستطع مداواته كان شعوري بقسمة الظهر والوحدة.

اقرأ أيضًا: كرب أمي

نودع الماضي.. وحلمه الكبير.. نودع الأفراح.. نودع الأشجان! راح اللي راح ومعدش فاضل كتير

قد يكون لما حدث الأثر الأكبر سوءًا على سير حياتي لمدة لا تقل عن خمس سنوات، تشكلت فيها شخصيتي بصورة مغايرة تمامًا لما توقعته لنفسي، كنت أشعر خلالها بالحنق الشديد تجاه فكرة الأب وأشعر بلزوجة أي صورة تتكلم عن علاقة الأب بابنته، وأحسد كل صديقاتي اللائي رزقهن الله بأب محب وحانٍ، حتى وإن كان فقيرًا أو ضعيف الشخصية، فأنا لم أرد سوى حنو بصوت ذكوري يمهد لي حياتي القادمة. ولكن الحقيقة أن خمس سنوات مليئة بالحزن وقسمة الظهر الاختيارية كانت كافية لتجعل مني فتاة قوية، لم أكن لأكونها لولا قراري الواعي بالاستغناء عن والدي والترفع عن مساندته، وتحملي الكامل لمسؤوليتي أمام نفسي بنجاحاتها وفشلها.

والآن أنا على علم تام بكوني مدينة لهذه التجربة بكل ما لها وكل ما عليها، أقول هذا بعد سنوات من التفكير المنزَّه عن الشفقة أو مشاعر الذنب سواء ذنب أتحمله أنا أو أحمله لوالدي، أهلتني هذه السنوات لأن أسامحه، بينما توصلت لكونه مجرد إنسان يتمتع ببعض الحماقة بالتأكيد، فهو ليس ملاكًا منزهًا عن ظلم فتاته الأحب. سامحت والدي الطفل يتيم الأم الذي لم يربَّ على الحنان، فحرم من التمتع بجمال فكرة الحضن، ولم يربَّ على ثقافة الشكر والاعتذار، بينما تقاذفته منازل العائلة لتربيه بعد وفاة والدته.

سامحت والدي قليل الذكاء الاجتماعي، وقررت أن أستمتع معه بما تبقى له من عمر. أتمنى من قلبي حقًا أن يطول لأعوضه خلاله عما حرمته، وأعوض نفسي عن غيابه.

المقالة السابقةتأثيرالصدمة النفسية على الدماغ، أعراض الصدمة النفسية، علاج الصدمة النفسية
المقالة القادمةإلى تلك الليلة الفارقة
نون
كاتبات

1 تعليق

  1. ربنا يوفقك ويجازيكي كل خير .. سامحي وانسي كل اللي فات .. لان مهما كان سبب قسوتهم من منظورهم بيكون ناتج عن حب شديد وحرص . هتحسي بالموضوع دي اكتر لما تنجبي اطفال وتخافي عليهم من الهواء .. اتمني انك تنسي تماما ولا تربطي الماضي بالحاضر . فكلما تقدمو بالعمر اصبحو اكثر رقه وحساسسيه وشعورا بالوحده . فيبحث عنك كل يوم وكل ساعه وان لم يبوح بذلك

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا