حواديت أمي الوردية

832

بقلم/ سمر صبري

حبيبتي ماما..
كم عامًا مر على ذلك المشهد الذي كان يجمعنا في فراش غرفتك لتقصين عليّ حكايات ما قبل النوم؟ أكثر من ٢٥ عامًا ربما؟ لا أعرف تحديدًا، ولم أكن يومًا ممن تُجِدن الحساب بدقة، أهرب دومًا من إجهاد عقلي بالعمليات الحسابية، ومن تلك المواجهة التي تضعني فيها الأرقام مع السنين، لكنني برغم ذلك أجيد دومًا تذكُّر ما يمس قلبي، حتى وإن فشلت في تحديد زمن حدوثه بدقة.

ما زلت أذكر المشهد بكل تفاصيله: فراش ضخم بمنظور طفلة ضئيلة الجسد، عالٍ للغاية وربما يحتاج لعمليات إغاثة تساعد في تسلقه، ونور هادئ بعدما تخففين إضاءة الغرفة لعلك تنجحين في إقناعي أن اليوم قد انتهى وحان وقت النوم، لكن كيف تنجح محاولات إقناعي دون حدوتة؟ لذا كنا نعيد ذات المشهد يوميًا.. أنا وأنتِ وحدوتة وضوء خافت وفراش ضخم، المشهد ثابت يوميًا بلا تغيير سوى اختلاف الحكاية كل ليلة.

ما زلت إلى يومنا هذا أضحك للغاية من حيلتكِ التي لم تنفع معي وقت أن كنت طفلة. ودعيني أصارحك بالحقيقة اليوم وأنا شابة ثلاثينية، لم تكن حكاياتك تدفعني للنوم، بل كانت تجعلني يقظة أكثر، لا لأنك كنتِ تقصين ما يخيفني، فلم تكوني يومًا بقسوة مَن يتلذذ ببث الرعب في نفوس الصغار بحكايات مفزعة كـ”النداهة” أو “أمنا الغولة” أو “أبو رجل مسلوخة”، وغيرها من حكايات التراث الشهيرة، ولم تتخذي يومًا التخويف منهجًا تربويًا معي أنا أو إخوتي، وإنما لم تكن حكاياتك تدفعني للنوم لأنها كانت تسافر بي لعوالم بعيدة من الخيال، أضحك للغاية لأنك كنتِ تنامين من فرط الإجهاد، بينما أواصل أنا اليوم مع أبطال حكاياتك، أستيقظ معهم في ليل صاخب لم تعلمي عنه أبدًا، بعد أن نطمئن أن مَن استسلم للنوم أنتِ لا أنا.

هل شاهدتِ يا أمي فيلم Night at the museum حينما كانت الحياة تدب في مقتنيات ذلك المتحف ليلاً؟ كنت أنا أيضًا وأبطال حكاياتك نستيقظ ليلاً كأهل المتحف، ونسافر معًا لعالم رحب من الخيال، استكمل لي أبطال حكاياتك القصص بعد نومك كل ليلة، أخبروني جوانب منها لم تخبريني إياها قط كي لا تصدمين صغيرتك بجوانب مزعجة في الحكايات، ولم أخبرك قط أيضًا أنني عايشت فعليًا ما هو أكثر إزعاجًا حينما كبرت وبدأ احتكاكي بالمجتمع، لم أخبرك قط كي لا تنزعجين على صغيرتك.. أعرف أنكِ ستريني دومًا صغيرتك وإن شِبْت. وبالمناسبة.. العالم يا أمي مفزع أكثر من حكايات النداهة وأمنا الغولة وأبو رجل مسلوخة مجتمعين.

كانت حكاياتك حالمة للغاية يا أمي، لكنني لن أجرؤ أبدًا على قول إنها قد ضللتني عن المعنى الحقيقي للحياة، لكونها أجمل بكثير من واقع انتظرت أن يكون كلاسيكيًا كقصصك، ولم أجده كذلك أبدًا.

أعي جيدًا أنه ليس مطلوبًا أن نصدم الأطفال مبكرًا بواقعية عالمنا وصورته الحقيقية؛ بعض التضليل مفيد أحيانًا إذ يهدينا وقت مستقطع بعيدًا عن صراعات الحياة، ربما هو ليس تضليلاً بقدر ما هو إقصاء لحقائق مفزعة لننعم لبعض الوقت بعالم جميل خيالي نلتقط فيه أنفاسنا، عالم لا وجود فعلي له سوى في حكاياتك وحسب. يُقال إن كوبري الخيال بيعدي بينا للحبايب“، وقد كانت حكاياتك حجر أساس كوبري الخيال في طفولتي، وفي حكاياتك كان جميع الأبطال حبايب. ليت العالم كان به تلك التعويذة التي تجمع دومًا الأحبة كما في حكاياتك.

لكن جُل ما تمنيته، لو أن حكاياتك فقط كان لها جزء ثانٍ تحيطه الواقعية، كنت فقط أريد شيئًا من التوازن يا أمي كي لا أظل طوال عمري أبحث عن الحلقة المفقودة بين حكاياتك وعالمنا الواقعي.

لو أنكِ فقط أخبرتِني بأن النهايات ليست دومًا سعيدة، وأن للحياة سيناريوهات أخرى غير متوقعة وقد تكون بعيدة كل البعد عما توحي به البدايات، وأن بطل قصتكِ الذي طالما كان متعاونًا ويمد يده للجميع سيقف يومًا والخذلان يعتصره وهو ينتظر مَن يربت على كتفه وقت هشاشته، لكنه لن يجد مَن يبعث الطمأنينة في نفسه، لو أنكِ فقط أخبرتِني في حكاياتك أن الصدق قد يفتح على صاحبه ما لا طاقة له به، وأن الخير لا ينتصر دومًا بالضرورة، بل قد ينسحق وسط سيطرة تامة من الشر والزيف والخداع والكذب.. وكل تلك الصياغات المقبضة.

لم تخبريني يا أمي أن المجتهد قد لا يبلغ حلمه، لأن بعض المتسلقين ينجحون بجدارة في سرقة تلك الأحلام، لم تخبريني أن اللطف صفة تجعل الآخرين يستهلكون طاقة صاحبها ويتركونه خالي الوفاض، بعد أن يستبدلون حماسته للحياة بخواء مرعب، ولم تخبريني أن الأشرار قد يكونوا من الشخصيات جميلة المظهر، صورتِهم في حكاياتك أنهم أشخاص بغيضة شكلاً ومضمونًا.. ملامحهم عابسة.. منفرين، بينما ما عرفته فيما بعد أن أسوأ نماذج قد نصادفها في حياتنا يمكن أن تأتينا في هيئة بهية.

كانت حكاياتك يا أمي تجسيدًا فعليًا لما تعنيه الميلودراما، حيث الانتصار الحتمي للخير بمواقف غير مبررة تُقحَم في الأحداث لتدحض الشر، “بلوت تويست “plot twist أو نقطة تحول غير مبررة، تمامًا كالذي نصادفه في أفلام الأبيض والأسود، حينما يجد البطل الفقير كنزًا فيصبح في لحظة من الأثرياء وتنتهي معاناته التي تجرعناها طول الفيلم، أو حينما يسمع أحد الشرفاء بالصدفة مكالمة يعترف فيها لص بنيته الإجرامية، فتتدخل السلطات تمامًا في اللحظة المناسبة… بإمكاني مد الخط على استقامته ووضع قصصك الوردية إلى جانب هذه المواقف.

حبيبتي ماما.. إياكِ أن تظني أنني أحاسبك على عدم واقعية حكاياتك؛ في الفن نحتاج أيضًا للخيال.. للفانتازيا.. للتحليق في سماء ما وراء الواقع، وقد نجحتِ بجدارة في ذلك، وربما أيضًا تكوني قد وازنتي بين الخيال والواقعية بجملة واحدة لم أستوعبها حينها، حينما أخبرتِني أن العدل دومًا موجود حتى لو لم نرَه أو نعيشه، أطمئن الآن لتذُكر جملتك تلك، وأعي معها الآن أننا جميعًا سنسدد يومًا ما فواتير ما اقترفناه، ولن يتساوى وقتها قيمة ما يسدده البطل الطيب والبطل الشرير.

ماما.. دعيني أضع تفنيدي لعدم واقعية حكاياتك جانبًا، وأسألك هل يمكن استعادة مشهدنا القديم وأنا الآن شابة ثلاثينية، أحتاج لبعض الونس والاطمئنان اللذين كانت تبعثهما في نفسي غرفتك وحكاياتك، وأعدك ألا أُحدث جلبة أو أزعجك بأسئلة الأطفال الفضولية. أعيديني يا أمي لعالم حكاياتك الوردية، فقلبي مرهق من واقعية عالمنا الفعلي.

المقالة السابقةكان يا ما كان
المقالة القادمةأفضل 22 قصة للأطفال من معرض الكتاب

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا