جسدي ضيق، لا يستوعبني ولا يشبهني، أفكر فيه بشكل مستمر. عندما أنظر للمرآة لا أرى فيه شبهًا مني، أراه مترهلاً وعجوزًا، وأرى في وجهي شيخة مظلمة. جسدي معتم، ولا تترك مسامه أي فتحات للضوء من داخلي ليمر للخارج. نعم، بداخلي نور كبير وطاقة وحركة، بداخلي صبية مرهقة من الطرق على الأبواب، وأنثى تذبل في رحلة البحث عن الهواء.
أستيقظ فلا أفكر قبل أن أغادر فراشي سوى في رغبة جامحة في الخروج، رغبة لن يكفيها أبدًا الخروج للشوارع ولا الجولات الطويلة في الطرقات، أريد أن أصرخ، أريد ممرًا هادئًا وناعمًا ومضيئًا يتسع لي ويخرجني من جسدي الضيق هذا، إلى براح ممتد بلا نهاية، أو أختار أنا نهايته على الأقل.
كل الملابس التي أختارها لا تناسبني، كل ألوان طلاء الأظافر لا تعبر عن لوني الحقيقي. أعلم يقينًا أن هناك ما يشبهني ويعبر عني في هذا العالم، ولكن علاقتي بخارجي ساقطة تمامًا في بئر من التيه، حتى لغتي لم تستطع بعد أن تعبر عني بأحرف دقيقة وكلمات واضحة، تيه لا أملك مفاتيح وصفه. لا أشعر بالراحة عندما ألوم العالم، أفضل أن ألوم نفسي، أقول رؤيتي محدودة وذوقي فقير، أنا كسولة وبطيئة ومملة، حتى الوقت يمل مني.
الرقص يفهمني، يحاول أن يساعدني، وأنا أقترب منه حينًا بشجاعة، وأهرب منه أحيانًا بمنتهى الجبن والتخلي. ساعدني الرقص مرتين، وجعل دينه في عنقي، وله عندي جميل لا ينسى.
أما المرة الأولى، فكانت في مراهقتي المبكرة، الوقت الذي لم تكن لديّ فيه أي ميزة تُذكر، ولا مهارة يمكن أن أشتهر بها، لا شيء يجعل مني فتاة يشار إليها في المدرسة، أو تتنافس الفتيات على صداقتها، لست متفوقة إلى هذه الدرجة، كما أني -وللمفاجأة- لم أكن بتلك الجرأة واللباقة في الأخذ والرد على أساتذتي أو زملائي، بالإضافة إلى يقين قاطع -وقتها- أني لم أكن محط اهتمام للجنس الآخر. في الوقت الذي كنت فيه مجرد فتاة عادية تمامًا، استطاع الرقص (الذي لم أتقن فيه حركات لوذعية قط) أن يخرجني من فقر فرصي (الحقيقية أو المتوهمة)، إلى براح خيالي.
أذكر تمامًا كيف أخذ الرقص بيدي من أعتاب الطفولة العالقة بجسدي لأول درجات الأنوثة التي كنت أتحسس طريقها على استحياء. هناك في غرفتي الصغيرة جدًا في بيتنا القديم في الفيوم، حيث الكاسيت الضخم في مكتبة الكتب، وشرائط الكوكتيلات التي سهرنا لنسخها، حيث طرح أمي التي كانت مصدرًا ملهمًا لزِي استعراضي كامل متكامل، استطاع الرقص وحده أن يحسم -بالنسبة لي على الأقل- منطقية معادلة محيرة تفترض أني لست طفلة في البسط، وأني بنت المجتمع الشرقي المحافظ في المقام، بكل ما يعنيه هذا البسط والمقام من معانٍ تشترك في فهمها كل بنات هذا الجيل على الأقل.
أنا ملكة الاستعراضات في غرفتي، ورغم غضب أمي وصريخها للحفاظ على طرحها، لم يكن الرقص في بيتنا ممنوعًا أو مستهجنًا، حسنًا، الشكر موصول للكاسيت الكبير، لطرح أمي، لمرآة غرفتي العالية التي اضطرتني للرقص فوق السرير للحصول على مشهد أوضح، الشكر موصول للرقص لأنه عرّفني على نفسي، لأنه عبر بي.
أما المرة الثانية فكانت بعد ولادة الصغيرة، نعم، في هذه المرحلة تمامًا حيث ينتظرنا جميعًا معشر الأمهات فخ الاكتئاب المتين، حيث تتبدل الاشياء كلها تمامًا، لا جسمي هو نفس الجسم، ولا وقتي هو نفس الوقت، ولا عاداتي هي نفس العادات، ولا حتى الهرمونات تلعب دورًا طيبًا في مؤازرتي.
مرة ثانية يمد لي الرقص يده، ويخبرني أنه يستطيع أن يلملم معي حطام الإحباط والحصار والملل، وأنه يمكنه أن يعيد بناء تلك الثقة المهدرة بيني وبين جسدي الذي غيرته أشهر الحمل والولادة القيصرية. قررت في مهادنة هادئة تمامًا بلا أي توقعات أن أسلم نفسي لبراحه فيفك قيدي، ربع ساعة مختلسة يوميًا لمدة شهر واحد، هذه المرة كانت كل عدتي أحمر شفاه، وفستان صيفي مريح، وثلاث أغانٍ فقط، أكررها على هاتفي الموضوع فوق كنبة بيتي الصغير بالمدينة الكبيرة.
لم يخذلني الرقص، وعرفني بنفسي في أوقات الثقل والخيبة والحيرة، بنى جسورًا بين العتمة والنور المتعاركين داخلي دائمًا أبدًا. شكر موصول من جديد للرقص الذي لعب دائمًا دور المتغير المعدل في ضجري المستمر ومعاركي مع جسدي، تلك المعارك التي كان يحسمها دائمًا في اتجاه واحد: أنت جميلة، وكل شيء بخير.