توقفتُ أخيرًا بعد موجات متتالية من النحيب في مرحاض المدرسة، مسحت دموعي بكلتا يدي بقوة، هندمت المريلة الكحلية التي أرتديها، وطبطبت على وجهي وأنا أنظر إلى عينَي المحمرتين وأحاول سحب نفس منتظم لإخفاء آثار البكاء “ابتسمي يا إنجي. مفيش حاجة. افتكري كويس. مش لازم ياخدوا بالهم من دموعك”.
ما زال ذلك المشهد الذي تعرضت له وأنا في الصف الثاني الإعدادي يطاردني بقوة، كلما حاولت التخلص منه أو نسيانه يأتي ليصفعني بقوة في وجهي ويهرب بعيدًا، ولكنه قبل ذلك ينظر إليَّ وهو يخرج لسانه، مؤكدًا لي بشاعة معنى التنمر وأن التخلص منه ومن آثاره ليس بالشيء الهين البسيط، فهو كالجرح الذي يصيب الروح وليس الجسد، حتى وإن خف فإنه يترك مكانه ندبة تُذكِّر الإنسان بمدى عجزه.
كان التنمر الذي تعرضت له بشكل ممهنج في المرحلة الإعدادية من دراستي، سببه بسيط جدًا، وهو حبي للقراءة بشكل مبالغ فيه، واهتمامي بها مقارنة بالدراسة. قادت هذا التنمر ما يسمى “قائدة” الفصل وقتها، أو ما يمكن وصفه بأنها الفتاة المتفوقة دراسيًا واجتماعيًا والمحبوبة لدى المعلمين، ولم تكتفِ بذلك، بل كانت تشجع زميلاتها على التنمر عليَّ.
بدأ الأمر بالسخرية من الكتب التي أقرؤها، واهتمامي بالقراءة وإهمال أمور الفتيات مثل “الفاشون” و”الميكب آب”، ثم تحول إلى التنمر عليَّ أنا شخصيًا، سواء على ملابسي أو أي فعل أقوم به أو كلمات أقولها، حتى كرهت المدرسة. كنت أستيقظ صباحًا وأنا أدعو الله أن ينتهي اليوم الدراسي سريعًا، بعد أن صار الجحيم أهون عليَّ مما أتعرض له. فكرت في اللجوء لوالدي لمعالجة الأمر، ولكني خفت أن تزيد موجة السخرية مني بسبب اعتمادي عليهم، فحاولت الحديث مع المدرسين، ولكن دون جدوى، فلقد كانت الفتاة المحبوبة والمتفوقة، وينتهي الأمر بكلمات مثل “معقولة فلانة تعمل كده؟”. أو “إنتي أكيد بيتهيألك يا إنجي”.
لم أنسَ اسم تلك الفتاة يومًا، وما زلت أذكر كلمات السخرية التي تعرضت لها، والضحكات التي أصطنعها أمام الساخرين، محاولاتي الكثيفة لمسح عامين دراسيين من حياتي (هما الصف الثاني والثالث الإعدادي) من الذاكرة بعد خروجي من المدرسة، وعندما لم أنجح في الأمر لجأت إلى دفنهما في أعماق اللا وعي حتى لا أتذكر أي شيء. منعت الكلام نهائيًا عن تلك الفترة من حياتي ولمدة 15 عامًا، لم أستطع البوح لأحد عن تلك الأحجار الثقيلة في قلبي من الخزي والحزن، وقلة الثقة بالنفس والخوف الذي سببه أذى التنمر بروحي، فمن داخلي كنت ألوم نفسي وأراها هي السبب فيما تعرضت له، لا المتنمرين كما عرفت بعد ذلك.
***
“ربع مليار طالب في المدارس حول العالم يتعرضون للتنمر من أصل مليار طالب، حسب آخر دراسة لليونسكو في 19 دولة لعام 2018، تزيد نسبة التفكير في الانتحار لدى طلاب المدارس بنسبة 9% إذا تعرضوا للتنمر، حسب دراسة مركز السيطرة على الأمراض الأمريكي لعام 2017. تزيد نسب الاكتئاب والانطواء والوحدة والقلق، وتدني تقدير الذات، وزيادة الإصابة بالأمراض حسب دراسة جامعة ساوث ويلز البريطانية لعام 2005″.
***
رغم كل ذلك كان هناك نقطة نور في مرحلة دراستي الإعدادية تأبى الانطفاء، ذكرى مهما حاولت دفنها في أعماق اللا وعي ونسيانها لا أستطيع، كانت “أبلة فاطمة” تلك السيدة الرقيقة المسؤولة عن المكتبة، والتي كانت بمثابة صديقة لي، والتي احتوت حبي للكتب وفهمته، فلم تفعل مثل باقي المدرسين الذين كانوا يطلبون منا ترك أي هواية نحبها في سبيل حفظ بضع كلمات لنلقيها في امتحان آخر العام، حتى أنها لم تفعل مثل أبوي اللذين كانا يحرِّجان عليَّ حمل أي كتب أدبية وسط كتبي المدرسية خلال امتحانات الشهر، بل كانت كالساحرة الطيبة التي تقود “أليس” في بلاد العجائب، فكانت تفتح لي أبواب المكتبة من بداية اليوم الدراسي حتى نهايته، كانت تناقشني فيما أقرأه، كانت تتفق معي على أنه لا قراءة خلال فترة الامتحانات بنوع من الحنان وليس التسلط، حتى أنها سمحت لي بترجمة بعض القصص الأجنبية الصغيرة رغم صغر سني، أما الأهم بالنسبة لي أنها كانت دومًا تفخر بي أمام الجميع بأنني الطالبة المثالية لديها، ليس فقط أمام الطالبات بل أمام المدرسين.
ظلت كلمات “أبلة فاطمة” واحترامها لي في تلك الفترة كوردة حمراء صغيرة تطل بوجهها الجميل وسط صحراء من الذكريات القاتلة، بل ربما كانت دافعًا خفيًا ليتحول ذلك التنمر إلى مجال عملي، الكتابة، حيث الخيال والإبداع الجميل الذي لم يكن ليحدث لولا القراءة المستمرة والمستفيضة التي شجعتني عليها “أبلة فاطمة”.
وبعد تزايد الحديث الإعلامي عن التنمر وحملة اليونسيف الأخيرة، أدركت حقيقة ما حدث معي، وأنني كنت أحد ضحايا التنمر البغيض، وأنني من حقي الحديث عن الأمر دون خوف من السخرية أو الشعور بالمسؤولية عما حدث، بل من حقي البكاء لما تعرضت له دون خجل أو خزي، وشعرت بضرورة زيارة “أبلة فاطمة” لأقدم لها بعضًا من كلمات الشكر التي لن تفيها حقها في مساندتي وعدم الانهيار وقتها.
وفي مكتبة مدرسة “سعد زغلول”، موطني الصغير، جلسنا وتحادثنا لتخبرني وهي تبكي أنها فخورة بي، وأن شعورها زاد بعد أن علِمَت بمجال عملي، ولم تكتفِ بذلك، بل قامت أمام الطالبات وحدثتهم عن ابنتها “إنجي” التي لم تنجبها، وطلبت مني إلقاء محاضرة عن أهمية القراءة، أما أنا فأخبرتها أنها لم تكن فقط خير معلمة، بل كانت خير ملاك حارس لي خلال سنوات عمري بما فعلته معي.
وأنا أغادر المدرسة لم أنسَ أن ألقي نظرة على المرحاض وأرسم على وجهي ابتسامة حقيقية من القلب، وليست كتلك المصطنعة والخائفة التي رسمتها على وجهي قبل 15 عامًا عندما تعرضت للتنمر.. وأدعو الله أن يحمي أي شخص من التنمر بـ”أبلة فاطمة”.