أُدللني بصديقة

660

أؤمن بما أخبرني به صديق في مقام أب، أن أحب الناس إلينا من يقاربنا، ويشبهنا فيما نتبناه من القيم. هذا يؤكد تعريف أبي هلال العسكري*: إن الصداقة تعني اتفاق الضمائر على المودة. وما اعتقده أرسطو** أن ما قام على منفعة انتفى بانتهائها، وما أقدمنا عليه من أجل لذة تغير حاله بالاعتياد، وفقط المحبة التي قامت على فضائل تشاركناها سيختبرها الوقت وتجارب الزمان، لتبقى في كل مرة وتتوطد أوصالها.

 

لذا عندما تتجلى الشدائد وتضرب عقلي أمواج الشك والمخافة، عندما تعصف بي وحدة، أو تجتمع عليَّ نقائصي، أهرب للصديقة لتشق الطريق عبر حشود المرارة وزخم الضيق، وتمد يدًا تنتزعني من غربتي لمواطن البِشر واللطف في صحبتها.

 

يكفي أن تمتدح الحياة بنشوة فطور مشترك تُغازلنا فيه قهوة صباحية وأبيات شعر لمطر***، أو تقدم خدمات البهجة ببساطتها المعتادة في نقاش عن الحقيقة ومعاني الجمال، فتسد خانات الخواء وترتقي بي من أرضيتي لملائكيتها.

يكفي أن تمسح على ندباتي وفرط آلامي بكفها وحرفها لتندمل، وأحيا بكتف أتكئ عليها تنقذ روحي من قلاع السخرة وتعيد إلى روحي السكينة.

 

يكفي أن ترنم بصوتها صلوات تذكُرني فيها عند الله، فتقف صلواتها درعًا ثابتًا يردني عن ما يُعاف من الغواية والفتن.

يكفي أن تُبَصرني بذاتي وتصحبني في رحلة من معرفة، فتنمو في مناخها النقي بذرة الطموح والثقة وتنبت لي أجنحة صافية لا شية فيها من محبة وسمات صدق مع النفس، كضرورة لأحظى بمستقبل من إنجازات، لم يكن أحد ليرى منذ البداية أصل روحي غير صديقتي.

 

يكفي حضورها وارتباطي بحبل مودة بها ونسبي إلى جوارها كناقوس يرهبني من الأخطار ويعلو بي عن الأوحال والعبث.

يكفي أن تخفف عبء العتب واللوم وتزيل أثقاله بالتلميح والكناية، فتصل ما انقطع وتنسج أوردة مودة وتبثها عطر نرجسة فتجبر الخواطر.

 

لا أقول إنها ملجئي وملاذي وقت الشدائد والكآبة فحسب، بل أقول إنها سعادتي المضاعفة ومسرتي في الفرح.. أقول إنها أسباب وجيهة لخلق ذكريات يحلو استرجاعها.

 

وحينما أريد أن أدلل نفسي وروحي وعقلي ربما سألجأ لممشى طويل تصحبني فيه بأسرارها وقصصها ورؤاها الحكيمة عن الحياة، أو لمجالس اطمئنان تجمعنا بمعارف مشتركين لنغني ونرقص وتملؤنا ضحكات حية، أو ربما سأسألها المشاركة في إحضار وجبة نُعدها ونثرثر لتحسين لغة ثانية، أو أدعوها لحضور ندوة أو حفلة أو صلاة، ليُجسِّد حضورها معنى الونس، ستقاسمني الطريق من مدينتنا الصغيرة إلى القاهرة، لنشتري بكل ما ادَّخرنا كتبًا من معرض الكتاب أو سور الأزبكية.

 

سنختبئ من الجد ونحن نتنازع قطعة من الشوكولاتة بطلاقة الطفولة الكامنة فينا، سيشير الناس بالأصابع لمعالم الإبهار حين نرتدي أثوابًا تسمح لألق الأنوثة أن يزدهر، ونخلع النظارات الطبية، سأفصح لها عن إعجابي بفتى نيلي الملامح، وستثريني بعدها بأفكار لتخطِّي تورطي فيه، وتهديني حجابًا حارسًا لا أضل بعده أبدًا، ستضيء في رحمي فراشة وتعلمني الصديقة أناشيد الأمومة، ستشاركني تفاصيل إعداد حقائب السفر، سننتزع من الوقت دقيقة أخرى في المطار بعناق يدفع ما قد تسببه المسافة، لتكون أوقاتنا عدة وزادًا في البعد والغياب.

 

صديقتي التي تسبر أغوار نفسي بأريحية، وتعمق عهود الصدق والمحبة في قلبي.. تجلب في جعبتها مهابة الطبيعة وحريتها يسمح وجودها بأن أتباهى بأني أعيش حياة عظيمة.

ولا أعرف كيف تُقال شكرًا عن كل هذا الدلال.

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

* يقع التعريف في كتاب أبي هلال العسكري (الفروق في اللغة).

** أرسطو أبو الفلسفة اليونانية.

*** إشارة للشاعر محمد عفيفي مطر.

المقالة السابقةحياة بطعم الـpassion fruits
المقالة القادمةولكم في السايكودراما حياة

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا