بيوت جميلة أم بيوت مريحة؟

1643

كان يومًا شاقًا للغاية، يشبه أيامًا كثيرة مثله، أقضي خلالها يوم إجازتي الأسبوعية اليتيم، في تنظيف بيتي من الألف للياء. مجهود شاق، يسبقه مشوار إلى والدتي لأودع صغيري هناك، حتى أنتهي من المهمة التي تستغرق النهار بطوله، فأستقل المواصلات وأعود لأخذه مرة أخرى.

 

وحدي، وبنفس الترتيب الممل، أبدأ بغرفة “يونس”، حيث أرتاح نفسيًا لوجود مكان واحد نظيف، يشجعني هذا على الانطلاق في بقية الشقة، غرفتي ثم دورة المياه، أخرج بعد ذلك إلى الصالة أنهيها وأتوجه إلى المطبخ، وأختم يومي بغرفة الغسيل الصغيرة، التي تحمل كراكيب الشقة.. هكذا بنفس الترتيب أخوض في الغبار أسبوعيًا وأحيانًا كل 15 يومًا.

 

في ذلك اليوم تساءلت عن معنى الإجازة التي تضيع في جهد، لا ألبث أنتهي منه حتى أسقط من فرط الإرهاق، لكن السقوط أحيانًا يصبح رفاهية، فدائمًا عليَّ العودة لاستعادة صغيري، عقب ساعات طويلة أقضيها في الكنس والمسح. أنام ليستحيل البيت في اليوم التالي إلى جحيم، أطارد خلاله تفاصيل صغيرة بلا حصر كي أبقي على النظافة، “فتافيت”، نقط شاي على الأرض، ملابس ملقاة في غير أماكنها، ألوان مبعثرة، لعب ومجسمات صغيرة منتشرة، غبار يحاصرني بمجرد الانتهاء، في مدينة عامرة بالغبار والتراب الرفيع الذي يردم بإتقان ويغطي الأسطح بإحكام، متخطيًا كل النوافذ محكمة الغلق والأبواب الموصدة، لا أدري كيف لكنه يفعل!

 

مجهود يتضاعف مع العناية المطلوبة بتفاصيل كثيرة في منزلي، الذي اخترت كل قطعة فيه بعد مشاوير طويلة وبعناية شديدة، عناية بدا أنها تستمر للعناية بما سبق أن اعتنيت به، عناية أبدية تحيل حياتي إرهاقًا متواصلاً. ذلك اليوم بالذات تذكرت بيت جدتي، لم يكن مُرتَّبًا للغاية، لكنه كان مريحًا جدًا، أقولها بينما أحاول الاسترخاء على الكنبة، فلا أسترخي أبدًا، أعصابي مشدودة جدًا وجسدي يؤلمني، لا يكاد يلمس الفراش حتى يستغيث من قسوة اليوم.

 

تستمر الأسئلة برأسي، ماذا لو كان منزلي أقل أثاثًا وأبسط في تفاصيله، ماذا لو أنني لم أقتنِ كل تلك القطع التي أرهقتني منذ لحظة اختيارها وحتى الآن. فجأة شعرت بهلع حين تذكرت أنني لم أكد أستمتع بهذا البيت، اللهم إلا في الأيام الأولى للزواج، تحديدًا الأيام الثلاثة الأولى، وما عدا ذلك فهو هَمٌّ متواصل “هنضَّف إمتى؟ هنضَّف إزاي؟”.

 

تذكرت فجأة بيت جدتي، تحديدًا تلك الراحة التي كنت أشعر بها، راحة عميقة للغاية، رغم مشاركتي في أعمال النظافة أحيانًا، لكن الشعور بالراحة والسعادة لم يكن وقتها مرتبطًا بأثاث من طراز مُعيَّن أو ألوان بعينها، كان مرتبطًا بالأحداث الطيبة في مكان أثاثه بسيط، لا نحمل الهموم بشأن اتساخه لأن تنظيفه بسيط أيضًا.

 

أتذكر أيضًا يوم سبوع صغيري، كنت مهمومة للغاية بـ”البهدلة” التي سيتعرَّض لها بيتي، ومع ذلك قضيت يومين كاملين في أعمال التنظيف استعدادًا لاستقبال الضيوف، الذين لم تكد أقدامهم تطأ الشقة حتى استحالت فوضى، لكثرة المدعوين، علمت وقتها كيف يمكن أن يحوِّل الشيء الجميل حياتنا جحيمًا، يسرق اللحظات اللطيفة، ويجعلنا عبيدًا عنده، تذكرت أيضًا ذلك الخوف المَرَضي عند صديقتي المُقرَّبة على طاقم الصيني والنيش عمومًا. لم أمنع نفسي من تخيل تلك اللحظة التي تمر بكثير من البيوت حين يقرر زجاج النيش التخلي عن وقارة والانقسام لنصفين، ليسقط كل شيء فجأة. تخيَّلت لو مرت صديقتي بالتجربة المريرة، تساءلت عن كم الحزن الذي دفعت ثمنه مُسبقًا آلافًا مؤلفة، تمامًا كما فعلت أنا.

 

توصلت لنتيجتي الخاصة جدًا، البيوت الجميلة ليست دائمًا مريحة، الأغراض العديدة المُعقَّدة، الجميلة، المنمقة، المختارة بعناية ليست إلا بوابة لمزيد من الإنهاك، المظاهر البسيطة تُبقي الحياة بسيطة، والمظاهر المعقدة تحيل الحياة جحيمًا. لا أمنع نفسي أوقاتًا عديدة من تخيُّل منزل موازٍ لي، لا يحوي سوى كنب إسطنبولي، وطبلية لتناول الطعام.. أغراض أقل، قلق أقل، مساحة أكبر وراحة أكثر، في الوقت ذاته لا أدري إن كنت سأقبل بشيء كهذا لي أم أنني سأظل أعمل عند أثاث بيتي للأبد!

المقالة السابقةحبنى وخد ريال.. المحبة مش بالحيال
المقالة القادمةأمَّنلي بيت
رحاب لؤي
كاتبة وصحفية مصرية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا