بسنت
ما زلت أتذكر عيد ميلادي السابع، حينما أحضرت لي والدتي مجموعة قصص للصغار، أخبرتني أن أعتني بهذه القصص وأقرؤها جيدًا،
حتي إن حافظت عليها ستمدني بمجموعة أخرى قريبًا.
كطفلة في السابعة من العمر، كنت أرغب في عجلة لا مجموعة حكايات. ولكن ذهبت لغرفتي وأنا لا أعلم أنني أحمل كنزًا بين يدي
متمثلاً في هذه المجموعة القصصية، كنز سيشكل عالمي وحياتي حتى الآن وكتابتي لهذه السطور.
قصة وراء الأخرى، جذبتني الحكايات، كنت أقصها لأصدقائي في المدرسة وأتخيل نهايات مختلفة كل مرة، أحضرت لي أمي كما وعدت
مجموعة أخرى من اختياري هذه المرة، لم أكن أمتلك مكتبة في غرفتي، بعد عدة أشهر من حفظ القصص في ضلفة دولابي الصغير،
صنعت لي أمي مكتبة خشبية بيضاء، وضعت فيها كل ما لديّ من قصص وكتب مصوّرة وكتب تلوين أيضًا، كانت المكتبة البيضاء
فارغة إلا من قصصي التي لا تتعدي أصابع اليد، يومها قالت لي أمي "دلوقتي دي مكتبتك، إنتي اللي هتختاري الكتب اللي تملا الأرفف
دي من النهارده، زي ما بتختاري أصحابك بالضبط".. وقد كان.
كبرت عامًا بعد الآخر، ملأت أرفف المكتبة بحكايات الصغار، ثم مجلات ميكي وعلاء الدين، ثم مجموعة فلاش وسماش، كنت أقرأ كل
شيء وأي شيء تقع عليه عيناي، تحولت لـ"دودة قراية" حرفيًا، أختار الكتب كأصدقاء يكبرون معي كلما كبرت، حتى بلغت 11 عامًا ثم
عثرت بالصدفة على كنز "المؤسسة العربية الحديثة"، "ملف المستقبل" و"ما وراء الطبيعية"، الحكايات البوليسية، ثم قصص الخيال
العلمي "صرخة الرعب"، كنت أدّخر طوال العام حتى أشتري مجموعة محترمة من الكتب لإجازة المصيف.. مجموعة ما زلت أحتفظ
بها كاملة إلى الآن في صناديق عديدة في منزل أبي.
ارتبطت بالكتب بشكل لا يمكن وصفه، لم أتخلص من كتاب أو حكاية إلا فيما ندر، أخبرني صديق قديم أن "الكتب ملهاش رجلين" حين
تذهب بعيدًا تتوه عن صاحبها ولا تعود. أصبحت أشاهد أرفف المكتبة تمتلئ شهرًا بعد الآخر، أنظر إليها بفخر وسعادة أراها في أعين
أمي أيضًا.
وضعت أمي بقصد منها أو بدون، أول حجر أساس في شخصيتي وتنمية موهبتي في القراءة ثم الكتابة، ثم في الحكي والتأليف فيما بعد.
كبرت أكثر وأصبحت زيارة معرض الكتاب كل عام من الطقوس المفضلة لديّ، كنت أنتظر إجازة نصف العام لتأخذني أمي للمعرض
ونعود محملتين بمؤن العام الجديد من الكتب، لن أنسى أول زيارة لي للمعرض، كنت أتجول بذهول بين جميع دور العرض، أرفف الكتب
الكبيرة، ألمس الأوراق وأبتسم، أحتضن الحقيبة الكبيرة المحملة بالكتب في رحلة العودة للمنزل، وحينما ذهبت في عام وكانت هناك ندوة
للدكتور نبيل فاروق، لم أتمالك نفسي من البكاء فرحًا، أخيرًا رأيت مؤلف كتبي المفضلة، نفس الأمر تكرر مع الدكتور أحمد خالد توفيق،
حينها فقط أدركت أنني أنتمي لهذا العالم، وهذا العالم ينتمي لي، عالم الورقة والقلم والحكاية.
في الصف الثاني الإعدادي كنت قد قررت أنني سأصير صحفية، لماذا؟ كي أحاور مؤلفي الكتب التي ملأت عالمي إثارة ونضوجًا
وحماسًا في سن مبكرة، كي أخوض التجارب التي أقرأ عنها بنفسي.. حققت حلمي بعد ذلك بسنوات أثقلتها بالقراءة، ملأت بقية أرفف
المكتبة بكتب في الأدب والفن والسياسة أحيانًا، كنت أميل للروايات أكثر، الخيال العلمي، والحكايات مفتوحة النهاية.. كفتاة في سن
المراهقة وكأنثى ناضجة فيما بعد لم تستهوِني أبدًا سلسلة روايات "زهور" و"عبير" وما شابهها.
مرت سنوات أخرى، عملت بالصحافة، وجاء اليوم الموعود، ندوة في الجريدة يحضرها مؤلفو كتب الطفولة والمراهقة، كنت أستعد وأعد
لهذه الندوة كما لو أنها امتحان لمهاراتي الصحفية، وحين جلست وجهًا لوجه مع كاتبي المفضل، لم يسعني إلا الاستماع له وتدوين كل
شيء.. حينها أخبرني زميل مقرب أنني يجب أن أفصل بين أبطال الروايات ومؤلفيها، والأهم أنني الآن صرت زميلة لهذا الكاتب الكبير
وإن صغرت خبرتي وعمري. حتى صرت أكثر ثقةً بنفسي، حاورت مؤلفي الكتب والروايات المشاهير، جلست بثقة أطرح الأسئلة
وأتلقى الإجابات وأصيغها باحتراف أو ربما بحب.. بحب لكل حرف أكتبه وامتنان لمكتبتي البيضاء.
تخبرني أمي أن المكتبة أصبحت مكتظة وغنية بالكتب الآن، عشرون عامًا هم عمر مكتبتي البيضاء، عشرون عامًا زورت فيها بلاد الله
وعرفت ما يفوق عمري أضعافًا مضاعفة من خلال مكتبتي، أبتسم وأخبر أمي أنني سأصمم مكتبة بيضاء كبيرة لابنتي في غرفتها قريبًا،
ابنتي التي بدأت أحضر لها الحكايات الصغيرة الملونة، سأعطيها كنزًا قديمًا من الكتب وسأتركها تصنع كنزها الخاص بنفسها عامًا بعد
الآخر.
اصنعوا لأطفالكم ركنًا للقراءة في غرفهم، اجعلوا لهم عالمًا من الخيال مع الكتب والحكايات، اجعلوهم يختارون ما يقرؤون، مدّوا أطفالكم
بأصدقاء لن يخذلوهم أو يتركوهم في منتصف الطريق، اصنعوا لهم مكتبة بيضاء تكون بوابتهم على العالم أكمله.