استمارة نماء الروح

387

وقعت أمامي لم أخترها، ملأتُها قبل استشهاد آخر أنفاسي الحرة، ملأتُ الاستمارة وأنا أحتضر على فراش الموت الروحي. اسمك، سنك، عنوانك، أحلامك، أهدافك، مبادراتك السابقة.. كتبت كل شيء وكأني أكتب صحيفة أعمالي، ووقفت عند آخر سؤال، ماذا تتوقعين من “نماء”؟ ولم أكتب شيئًا، تركته فارغًا.

في الحقيقة.. المحتضر لا يتوقع شيئًا من أحد.ضغطت على الزر، وأرسلت صحيفة أعمالي (استمارة التقديم لمدرسة نماء الشتوية) ولم أنتظر شيئًا. ذهبت لفراشي لأستكين كالأموات، ولما تفقدت رسائلي في الصباح رأيت الرد من “نماء”، وأنا على يقين أنهم لا يقبلون بالأموات، وضحكت بخبث وفي سري “هؤلاء الحمقى يقابلون الموتى حقًا في مقابلات شخصية!”.

سأذهب إليهم لأخبرهم أن الموت والحياة لا يستويان. ذهبت للمقابلة الشخصية وعرضت عليهم صحيفة أعمالي للمرة الثانية، وسألوني عن سبب ترك السؤال الأخير فارغًا.. فأجبت أني لا أتوقع منهم شيئًا. خرجت من المقابلة أحدث نفسي بأنهم الآن سيفهمون لعبتي مع الموت. تفقدت رسائلي مرة أخرى فوجدت منهم تهنئة باجتياز المقابلة ودعوة لمقابلة جماعية لكل الأفراد المقبولين، والتي تمثل المرحلة الثانية لتحديد الأفراد المتقدمين للمدرسة، حيث يتبقى فقط ثلاثون متقدمًا.

لم يكتف القدر من اللعب معي، وفقدت شخصًا عزيزًا للأبد في نفس يوم المقابلة الجماعية، لأذهب إليهم بلا روح بلا أمل وبعينين تحبسان الدموع. في هذه المقابلة يعتمدون عدة أنشطة لقياس قدرتنا على التواصل والتفكير. لذا قررت أن أترك أحزاني لنهاية اليوم وأركز معهم.

وما هي إلا أيام حتى أرسلوا تهنئة القبول بمدرسة “نماء”. في البداية اندهشت، ولكني علمت أن الله يعلمني درسًا وعليّ الإنصات. بدأت المدرسة وبدأت معها المحاضرات وبدأت معها رحلة التعرف على الصحبة. ثم يكمل الله الدرس فيعرّضني لصدمة أخرى بعد أيام من بدء المدرسة، فأنهار وأفكر في عدم الذهاب للمدرسة مرة أخرى، ولكني أراجع سبب وجودي في المدرسة.. فأتراجع.

مع مرور الأيام بدأت أرى فيهم أرواحًا طيبة وقريبة مني بشكل ما.. ورغم أني لم أتحدث كثيرًا، فقد أحسنت الإصغاء إليهم ونسيت همومي، أو بمعنى أصح أجّلتها. “نماء” بالنسبة إليّ لم تكن محاضرات فقط، بل كانت أفرادًا وأرواحًا ائتلفت، فلم يكن لروحي إلا أن تستمتع بهذا الجمال وتنفض جراحها وتبدأ معهم الرحلة.. رحلة التعلم وتبادل الخبرات الحياتية.

تعلقنا بعضنا ببعض بشدة، كنا نتقابل يوميًا من التاسعة صباحًا للسابعة مساءً، نأكل ونشرب ونتعلم ونحكي ونذهب لزيارات ميدانية، ونتشارك الفرح والحزن لمدة اثني عشر يومًا. وفي آخر ثماني وأربعين ساعة قضيناها في معسكر بالإسكندرية زاد هذا الترابط فيما بيننا، وسألني البعض عن مشروعي القادم بعد “نماء”، خجلت كثيرًا من نفسي لأني لم أخطط لذلك كالبقية، وأدركت أني لا أستطيع العمل بالتنمية ومساعدة الغير، بينما أنا نفسي بحاجة إلى إصلاح ما تكسّر بداخلي.

هنا فقط أخبرني أحد المنظمين أن هذا هو المطلوب، وأن عليّ البدء بنفسي، وكوني خرجت بهذه الفكرة فهذا يكفيهم ويعد إنجازًا لهم. الآن أجلس أكتب هذه الكلمات وأنا أتذكر كل فرد، زهراء الأخت، صوت عالية الشجي، عود عمر، رقة قلب قوت، براءة علياء، حنان مريم، احتواء آلاء، خفة دم خضر وتوفيق، صلاح الدينامو المحرك لـ”نماء”، رامي محليات، تمثيل منة، منال وعزفها على الكمان، مهند الذي يحمل همّ العالم فوق ظهره ورحلة تعلّمه مع الرسوم المتحركة، شغف جيهان، حلم إبراهيم في البطولة الذي أضحى حلمنا كلنا، حكاوي نسمة وضحى، ضحكة نرمين، وحضن سنة ويارا.. والكثيرون الذين يمكنني أن أتحدث عنهم بلا انقطاع.

“نماء” أصبحت عائلتي الثانية، أعادت إليّ روحي لأبدأ من جديد، أتذكر قول الدكتورة هبة رؤوف في أول جلسة عندما أخبرتنا بابتسامة “احترموا نفسكم وحبوها”، الآن فهمت ماذا كانت تقصد.. لذا سأحترم نفسي. خوضوا تجربة “نماء”. “نماء” مبادرة التقاء الأرواح الطيبة.

مدرسة “نماء” هي ساحة مفتوحة للتعلم، وهي مكان للإلهام والتفكر، تهدف “نماء” إلى خلق مبادرين مجتمعيين وصولًا إلى مجتمع أكثر انسانية. تؤمن “نماء” بقيمة كل فرد وتعزز من البناء على المشترك بين الجميع، نرى أن التربية هي الحل وأن التنمية لا بد أن تنبع من داخل المجتمع.

للمعرفة أكثر عن مبادرة “نماء” يمكنكم زيارة الصفحة : أضغط هنا 

المقالة السابقةحكاية بنت اسمها هويدا
المقالة القادمةوبكرة هنكون فين في الدُنيا؟

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا