مسلسل البرنس: الشر لا يأتي من العدم

788

قد لا أستطيع أن أُعدد لك المواقف التي مررت بها، ودفعتني لأصف الحياة بالظالمة، لكن حينما كانت الصدمة تدعني وشأني، كنت أكتشف أنها عادلة بشكل أو بآخر، عادلة حتى في مقدار الظلم الذي تلفح كلاً منا به، ومن هنا، من هذه القناعة تحديدًا أو غيابها، تنطلق شرور العالم على اختلافها أو تنحصر، أو ربما حتى تتحول إلى تلال من الخير. وإذا كانت الظروف، ذلك الشبح المتلون، الذي يبتسم فيصير ملاكًا بجناحين، ويقطب جبينه فيصير شيطانًا ماردًا، تلاحقنا لعنته أينما وجهنا وجوهنا، فأين -يا تُرى- نحن من تلك المعادلة، إرادتنا، تربيتنا، مشاعرنا وأفكارنا، هل لأي من ذلك قدرة على تغيير حركة الدفة؟

يقول دينيس ويتلي: “أمامك اختياران في الحياة: أن تقبل الظروف كما هي أو ان تقبل مسؤولية تغيير هذه الظروف”.

ولعل هذا ما كان أحمد زاهر “فتحي” ومحمد علاء “ياسر” وإدوارد “عبد المحسن” ورحاب الجمل “عبير”، يحاولون فعله، منتعلين أحذية الشر ومخالبه، في مواجهة أب أقصاهم بعيدًا عنه حيًّا، بتمييز أخيهم “رضوان البرنس” عنهم، وميتًا بحرمانهم من حقهم الشرعي في الميراث، متخذين من الانظلام ستارًا، ومن قسوة الظروف دِرعا يتذرعون به.

الشر كائن حي

الشر كائن حي تمامًا مثلنا، يخرج من أرحام الأنفس، كما نخرج من أرحام أمهاتنا، ضعيف، هزيل، لا قدرة له على الحياة ما لم تأخذ بيده قوة أكثر بأسًا منه، والشر في مهده يتغذى على المعتقدات السلبية عن النفس والمحيطين والحياة عمومًا، فتجد عائله يردد في ريبة، لماذا وُلدت فقيرًا؟ لماذا حُرمت من الإنجاب؟ لماذا الآخرون أغنياء؟ لماذا أصحاء؟ لماذا الحياة ظالمة معي بينما منصفة كثيرًا معهم؟

بحر من الأسئلة المفّتعلة، يهدأ فقط بإسكات نبض المشاعر، للحد من التعاطف مع النفس والآخرين، وإعلاء صوت يحسبه في البداية، صوت العقل، بينما هو صوت وسواسه الخاص، الذي يخبره أن ما من سبيل لرفع الظلم عن نفسه وتغيير ظروفه السيئة والانتقام من الآخرين إلا بتغيير طبيعته، فالذئب لا تلتهمه الذئاب.

أحسِن يُحسن إليك

بينما تتابع حديث “فتحي البرنس” إلى “فدوة”، الحديث المشحون بالحقد والكراهية عن آخره، والذي يعلن فيه أسباب كراهيته لأخيه “رضوان” كتبرير لفعلته، ستشعر بالصدمة والخدر في الوقت ذاته، كأنك تعرضت للتو للدغة عقرب سام؛ كيف يمكن لأب وأم مهما كانت طبيعتهما والطبقة الفكرية والاجتماعية التي ينتميان إليها أن يكونا سببًا في ضياع أبنائهم بهذه الصورة؟!

بينما تطالع الشاشة أمامك تجد قاتلاً يلف النزيف قلبه من كل جانب، فأبوه وأيًّا كانت دوافعه، أعطاه جنجرًا مسمومًا ليطعن به أخاه مرة ويغرزه في قلبه ألف مرة، عبر تمييز أو تفضيل أو محاباة، أو ما شئت وصفه، فالنتيجة واحدة، أخ يضمر الحقد لأخيه، ويظن شيطانه أن نار الغيرة والكراهية التي ولدت صغيرة وأشعلتها الأيام والليالي، خلاصها سيأتي عبر تمكين الشر والشر فقط، وإذا كان هناك كلمة وحيدة أريدك أن تضعها نصب عينيك فهي “أحسِن تربية أبنائك، يُحسَن إليك”، لأنك وبينما تربي ابنك، ستكتشف أنك ما زلت في حاجة للتربية.

أنت تربيه على الحق والمحبة والخير والعدل والمساواة، بينما تتلاعب بك الظلال الكريهة لتلك الصفات الحميدة في الظلام: أنت تكذب وتكره وتمارس طقوس الشر، بينما يدفعك هوى نفسك للظلم والتعدي على الآخرين، وتريد لصغيرك أن يؤسس مدينة فاضلة في السراب. انتبه ماذا تفعل.

المساواة في العدل عدل

لا أعتقد أن للشر أكثر من وجه، فوجوهه كلها في السوء سواء، مهما حاول المضللون تزييف تلك الحقيقة، سيظل الشر، ذلك الكريه الذي ما نزل بنفس إلا ساءها، لكن ترى هل العدل كذلك؟ أظن وبعض الظن إثم أن وجه العدل ومن شدة وضوحه، تباينت تفاصيله في عين المطالعين له، فما تراه عدلاً بالنسبة إليك، قد أراه ظلمًا بيّنًا أُسقط عليَّ قسرًا، مهما حاولت إيضاح الأمر لي، سأُخضعه لمفاهيمي البسيطة عن المنفعة والضرر، وحينما يفشل في الاختبار، لن أجاملك على حساب نفسي.

رحاب الجمل “عبير”، الفتاة الثلاثينية، محدودة الفكر، التي لم تتلق أي قدر من التعليم، ولم تحظ في حياتها بفرصة لامعة تذكر، هي بالنسبة لأختها الصغيرة ريم سامي “نورا”، طالبة الهندسة، التي تتمتع بسمعة طيبة بين أفراد أسرتها بل وفي الحي بأكمله، لكونها المتعلمة، الواعدة، التي ينتظرها مستقبل مشرق، إنسانة تنضح بالجهل والحقد، حتى أنها في سبيل الحصول على مستقبل مقبول عبر امتلاك “بيزنس خاص” ومنزل تؤسس فيه عائلة، شاركت باقي إخوتها في التخطيط لقتل أخيهم، والحقيقة التي تتوارى خلف الظروف والفروق الفردية بين الأشخاص، هي أن “عبير” كانت مجرد برعم صغير في حلقة الشر، برعم تغذى على الظروف وترعرع على المقارنة بالآخرين، حتى تحولت لشريرة بالغة، هان عليها كل شيء في سبيل رفع ما ارتأته ظلمًا لها، حتى لو تسنى ذلك على حساب دم أخيها.

حينما تختار أن تأتي لهذه الحياة بأكثر من ابن، فاعلم أن الاختيارات القادمة ستصبح أكثر مصيرية، فالمساواة لم تعد خيارًا، وكونك لا تعلم من أي ثغرة سيجد الشيطان الرجيم طريقه، جفف منابع الفتنة، وجد طريقة للعدل، فالمساواة في العدل عدل. من لم يحالفه الحظ للحصول على تعليم لائق، ساعده ما استطعت أن يجد نفسه بطريقة أخرى، لعله يملك شغفًا خاصًا، يقوده إلى مصير أفضل. لأنك حين تتركه لمواجهة مصيره ودفع فاتورته الخاصة، تعطي للشيطان سببًا جديدًا للتدخل وتفعيل صوته.

خيال الظل

في كل بيت ستجده، فقط ابحث وراء الأبواب المغلقة، ستعثر عليه مكوّمًا بين يأسه يتساءل: ما الشيء الذي يفعله أخي ولا أفعله، كي يحصل على صفات التفضيل مجمعة، بينما لا يتبقى لي سوى فتات المعايرة به: أخوك أذكى منك! أخوك أشطر منك! ليتحول للقمة سائغة بين فكي الفشل، وقد سلمته مسبقًا إليه، فهو لن يقوى على مناطحة أخيه في قمته العالية حيث وضعته، ليتحول إلى خيال ظل، لا قدرة له على إحداث أثر مهما ضعُف، فيصبح مصيره أحد أمرين، إما شخصًا حانقًا شريرًا، لم يترك الشر بداخله موطئ قدم، وإما نسخة ضعيفة مبتذلة عن أخيه، وقد قرر “ياسر البرنس” أن يختار الأخير، فقد استعاض عن صوته بصدى صوت أخيه “فتحي”.

“فتحي” القوي، الذي ينهر الكبير قبل الصغير، “فتحي” يُخطط و”ياسر” ينفذ دون نقاش، فمن هو لينقاشه؟ حتى لو كان موضوع النقاش قتل أخيهم؟!

التربية

التربية  واحدة من أقوى الاختبارات التي ستمر بها في حياتك، ومنذ الأيام الأولى لتنامي إدراك صغيرك، ستنتبه إلى أمر في غاية الخطورة، وهو أن ما من شيء في هذه العملية المصيرية وليد صدفة، فالابن المهذب هو نبتة والديه الصالحة، طيبته وإيثاره للآخرين وسلامة سريرته دليل على تحليهما بالصفات ذاتها. هدوء أعصابه وصلاح سلوكه، إنما هما وليدا ما صنعاه معه. وهذه هي القاعدة الأساسية للتربية، أنت تزرع لتحصد ويحصد ابنك وينعم المجتمع كله من جميل ما صنعتما معًا.

لكن هل يعني ذلك أن جميع عناصر التربية تخضع للسيطرة؟ يجيبنا العلم في أكثر من منحى له أن لا، فقد يولد لك ابن ذو ميول غريبة، فتدفع العوامل الوراثية جنبًا إلى جنب مع عامل البيئة تلك الميول نحو مزيد من التنامي، حتى تصير سلوكًا ملموسًا، أو صفة، كإدوارد أو “عبد المحسن البرنس”، الذي أُعلن عن أول ظهور له، بينما يتحرش بإحدى زبائنه، كأنه يمارس هواية محببة أو شيئًا يجد فيه سعادته.

ميول “عبد المحسن” طفلاً هي ما أتت به إلى هنا، ومن المؤَكد، أنه مارس التحرش في كل مراحل حياته، وأن هذا الأمر قد استرعى انتباه المحيطين به لأكثر من مرة، لكن لم تحظ مرة واحدة منها باهتمام أحد أبويه للتعامل مع الأمر بوصفه مرضًا يحتاج إلى علاج، سلوكًا يحتاج إلى تقويم، أو بتعبير أكثر بساطة مشكلة تحتاج إلى حل.

مثل “عبد المحسن”، وجد علم النفس طريقة للتعامل معهم، عبر أطباء ومتخصصين في تعديل السلوك وتقويمه والحد من تفاقمه، قبل أن يتحولوا إلى نسخ مشوهة، عديمة الفائدة، تظن بنفسها كل الظنون السيئة، ولا يضايقها أن أضيف لها صفة سيئة جديدة أو حتى كَبيرة لا تُغتفر كقتل الأخ.

جذور الشر

من يبحث عن مبرر للشر سيجده، ففي أي شيء سيبدد شيطاننا الخاص فراغه، ما لم يقم بدوره في شأن كهذا؟ لكن هل تختلف شمَاعات الخطأ العادية عن مثيلاتها للشرور الكبيرة؟ لا أعتقد أنهما يختلفان في شيء، بل أعتقد أن العلاقة بينهما علاقة دم، فالأولى ابنة الثانية، التي لا يزيدها مرور الوقت إلا قوة وشَبهًا بها، والجذور أصدق قولاً وإن كان للظروف رأي آخر، فبمجرد اختيار سلوى عثمان “سميحة” وأحلام الجريتلي “نجية” طمس الحقيقة، والوقوف بجانب الباطل، فقط لحماية أبنائهما، ستهتدي إلى أن تلك الثمار الفاسدة المتمثلة في “فتحي” و”عبد المحسن” و”ياسر” و”عبير”، وحتى المسكون بالخدر “عادل” و”نورا” الأنانية، التي وجدها الحق أضعف من نصرته، أحق بهم تلك الأمهات المسكونات بالضلال وذلك الأب ذو الشق المائل، فجذور الشر لم يحدث أن أفلح لها ثمار.

اقرأ أيضًا: بطلات مسلسلات رمضان 2020: كلهن يفتقدن الحب

المقالة السابقة٢٠٢٠: عام الدروس الصعبة
المقالة القادمةعندما فتحت صندوق الرسائل
كاتبة وصحفية مصرية

1 تعليق

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا