كثيرًا ما تكون الأغاني ملاذنا حين نعجز عن التعبير عما نُريد قوله أو نشعر به، وكلما زاد الألم زادت رغبتنا بالبَوح، في الوقت الذي يفرد الصمت سطوته أكثر على الموقف. ومع مرور العمر وانخراطنا بتجارب حياتية كنا نصفها يومًا بـ”تجارب الكبار” تصبح الأغاني التي تُعبر عن لسان حالنا أكثر ندرة، ذلك لأن معظم الأغاني تشدو للحُب في عنفوانه الأول، حيث البدايات الحالمة والصورة المثالية عن الحبيب والمُستقَبَل المُنتَظَر.
أما المشاعر الأخرى وأوجه العلاقات المتعددة والأكثر نُضجًا/ بؤسًا، غالبًا لا نجدها إلا في الأغاني القديمة جدًا أو بعض أغاني الثمانينيات والتسعينيات القديمة نسبيًا، بينما الأغاني الدرامية المُعاصرة التي تفعل المثل تكاد تكون مُنعدمة، وهو ما يجعل اكتشاف إحداها أمرًا يستحق الاحتفاء، ذلك ما سنفعله في هذا المقال.
1- حبايب إيه (عمرو دياب)
“بنمشي الإيد في حضن الإيد
ونتبسِّم قصاد الناس
عشان منهزش الصورة
عشان يتصدق الإحساس”
أستمع إلى هذه الأغنية فأرى أمامي زوجين انطفأت جذوة العاطفة بينهما، تاه الحُب وسط مسؤوليات الحياة، ورغم الفتور الذي يُخَيِّم على العلاقة لكنهما يُقرران الاستمرار في تلك العيشة المُزيفة، رُبما من أجل الأبناء أو لضمان الاستقرار المادي أو حتى كستار اجتماعي مُريح، ما يضطرهما للتظاهر بالسعادة والانسجام، عسى لا يُدرك أحد الشرخ الهائل بينهما.
كم من بيوت نعرفها، أبطالها تنطبق عليهم تلك الأغنية! لكنهم رغم الموت الإكلينيكي لعلاقتهم لا ينوون اتخاذ أي قرار بالإنعاش ولا حتى الرحيل، لا عن استسلام بقدر ما هو تَمكن الخذلان منهم.
2- أنا بتخان (أصالة)
“أنا بتخان
وعامله نفسي مش سامعة ولا شايفة
أنا بتخان
ومش حاسه بأمان خالص أنا خايفة”
في ظل ما نقرأه بشكل شبه يومي على صفحات التواصل الاجتماعي ويعايشه بعضنا كواقع بالفعل، بطلة هذه الأغنية قد تكون امرأة في أواخر الثلاثينيات تزوجت، عن حب أو صالونات لا يهُم، اكتشفت خيانة زوجها لها -صدقوني النساء يعرفن- لكنها لم تُخبر زوجها بما عرفته ولا تدري ما الذي عليها فعله.
هل تهدم منزلها والحياة التي سَعت إليها وبذلت الجهد والعمر لبنائها، أم تمنح شريك حياتها فرصة أخيرة لعله ينتصر فيها لحبهما؟ وإن استمرت.. هل تظل مُتظاهرةً بالجهل أم تواجه وتخاطر إما بخسارة زوجها وإما بكرامتها؟
3- ما بلاش (محمد حماقي)
“الحقيقة إن الحياة ضحكت علينا
لا الفراق ولا اللقا كانو بإيدينا
لما يومها حضنتني وبعدين مشينا
ليه مقولتش إن ده الحضن الأخير”
كبرنا وصار الفراق عن الأهل، الأحباب، والأصدقاء أمرًا اعتياديًا وواقفًا لنا على الأبواب بالمرصاد، نفقدهم واحدًا تلو الآخر، إما بالهجرة لبلاد لا تأكل ناسها، وأوطان تُدرك أن المَجد للإنسانية، والمواطنة ولحقوق الإنسان في الحياة الكريمة الآدمية، فتصغر عائلاتنا وتتقلص مجموعات الأصدقاء.
أو بالموت الذي علمنا بالتجربة أنه لا يُفرق بين كبير وصغير. نستيقظ كل يوم على صدمات غير متوقعة وواجبات تعزية، رغم كثرة حالات الموت التي عايشناها بالسنوات الأخيرة، ما زلنا غير قادرين على تأديتها دون أن نُصاب بالارتباك أو نعرف كيف نجعلها تُخفف فعلاً عمَن فاتهم الحضن الأخير لأحبائهم، فكل الكلمات مهما بلغ صدقها تبدو بالنهاية مُنهزمة ولا جدوى من ورائها، لتأتي أغنية حماقي فتصف الحالتين السابقتين بدقة، وتمنح أصحابها طبطبة من نوع جديد لم نعتد عليه من الأغاني.
4- بقيت وحدك (أنغام)
“ودلوقتي أنا وحدي
وإنت خلاص بقيت وحدك
بدأت رحلة الغربة الحقيقية
وبان أكتر صهيل البرد حواليا”
أسوأ العلاقات ليس ما تنتهي بالفشل والاضطرار للعودة مره أخرى لأول السكَّة مصحوبين بسؤال: هل ننسى ونُحب من جديد؟ أو لماذا أخطأنا الاختيار بالأساس؟ بل أكثرها ألمًا وفجيعةً هي التي يضطر طرفاها للانفصال وهما ما زالا في أوج الحُب، يُريدان بناء حياة معًا، لكن ظروفًا أكبر منهما تمنعهما، فلا يقويان على تحديها أو الانتصار عليها.
بمجتمعاتنا العربية قد تكون تلك الظروف ناتجة عن فوارق مادية، اجتماعية، أو أُسرية، والأصعب تكون حين يلتقي اثنان، أحدهما طرف في علاقة زواج لم يُحسن فيها الاختيار، فيشعران بالانتماء بعضهما لبعض وأن علاقتهما معًا أكثر صحةً وأحقيه بالاستثمار.
لكن بحسبه أخرى يكون الأوان قد فات على هَدم المعبد، لأن ضحايا آخرين سيدفعون ثمن ذلك الاكتشاف المتأخر، وليس أبطاله، لتصبح النتيجة واحدة، البُعد مع شعور عارم بالغُربة والاضطرار لمواجهة المخاوف الحياتية، آملين ألا تكون أحزانهما أبدية، وأن تمنحهما الحياة أحلامًا جديدة تُعيد إليهما شغفهما بالعَيش والمواصلة.
5- أيوة اتغيرت (سميرة سعيد)
“أيوة اتغيرت مقدرش أقولك متغيرتش
علشان أنا كنت زمان عشقاك وإنت مقدرتش
أرجع مرجعش دي ترجعلي أنا بقى وظروفي
من إمتى عملت حساب زعلي أو همك خوفي!”
الحب قد يَفنى وتستمر الحياة دونه، أما الاهتمام فلا بد أن يظل قائمًا بأي علاقة وإلا كُتب لها النهاية، فالجفاء يُذبل القلب ويُجِف المشاعر ويُوصل العلاقة لطريق موصود بارد لا حياة فيه، وللأسف بعض الرجال لا يُدركون أن عطاء المرأة واهتمامها -وإن بدا لا نهائيًا- لكنه بالنهاية مشروط، شرطه الوحيد أن تجد المرأة مردودًا لما تفعل، فتشعر بالتقدير وقيمتها بحياة مَن تُحب.
فإن تجاهلها الرجل عاطفيًا واكتفى بالتعبير عن مشاعره بالتكفل بها ماديًا مثلاً، دون فِعل مواقف رومانسية بسيطة من وقتٍ لآخر، شعرت المرأة بالإهمال وذبلت، ثم تصبح رمادًا، وقتها فقط تعود مره أخرى كما يليق بعنقاء، فتتجدد وتُعيد إدراك قيمتها، ومن ثَم ترحل دون أن تنظر أبدًا للخلف.
6- حكاية واحدة (دنيا سمير غانم)
“قلوبنا في الهوى نصيبها، حكاية واحدة متشابهة.. لكن نهاياتها مختلفة”
في رأيي هذه الأغنية واحدة من أفضل الأغنيات التي عبرت عن الرحلة التي نسلكها بالعلاقات العاطفية، من أول البدايات الساحرة التي تشدنا دون أن نعرف السبب، فنتبع قلوبنا كالمجذوبين، مُصارحين الآخر بمشاعرنا، لننعم بإيفوريا الحب الطازجة، بعدها تأتي مرحلة الاكتشافات المُقلقة التي تجعل السهل صعبًا، فتتغير المشاعر وتتقلب القلوب، قبل أن نصل للنهاية، حيث العتاب وخروج الروح من العلاقة التي ظننا يومًا أنها أفضل ما حدث لنا بالحياة.
7- ساعة الفراق (عمرو دياب)
“ساعة الفراق متلومش حد على اللي قاله
وأهو كلمتين بيهونوا الجرح اللي فينا
وكل واحد بعدها بيروح لحاله
مش كل حاجة نعوزها نلقاها في إيدينا”
كما بدأنا بعمرو دياب نختم به، وأغنية عن الفراق، تلك النهاية التي يختبرها أشخاص أكثر من هؤلاء مَن يختبرون الاستمرار مع الحبيب، ذلك لأن العلاقات العاطفية ليست بالبساطة التي نُشاهدها في الأفلام، ولا بالخيال الذي نقرأه في الروايات، أما أهالينا فكذبوا علينا حين أخبرونا أن الزيجات تستمر حتى الموت.
لذا كان من البديهي من كل ثلاث علاقات نعرف أصحابها ونُراهن عليهم أن تنتهي واحدة بالانفصال، ولأن الغالبية العظمى منا أشخاص لم تنضج عاطفيًا بعد، عادةً ما يكون الفراق مأساويًا ومليئًا بالإهانات واللوم الذي يجعل من الصعب أن ينظر شريكان مرة أخرى بوجه بعضهما بعض بعد الرحيل.