في الدراما التليفزيونية دومًا هناك نوع من المسلسلات يرفض صفة “العادي”، يترك أثرًا في نفس المُشاهِد لا يُمحى، بعد أن تنجح في سحبه إلى عالمها فيعيش أجواءها، ويتمنى لو كانت أحداثها حقيقية من فرط إعجابه بها.
من هذه المسلسلات “ليالي أوجيني”، فرغم بعض الأخطاء الدرامية به مثل الإيقاع البطيء، وعدم وجود أحداث درامية مؤثرة، وإحساس المشاهد بالبتر نتيجة عرض قصص حب أبطاله دون وجود الخلفية السياسية التي تحقق قدرًا من التكامل، وغياب النطق السليم للعامية المصرية، لكن ذلك لا ينفي جمال المسلسل أو الإبداع الفني فيه.
وإليك ستة أسباب -عزيزي القارئ- تدفعك إلى حب ومتابعة “ليالي أوجيني”، في حال إن قررت ذلك رغم أخطائه.
1- حدوتة الحب الهاربة من أجواء الأكشن والغموض
بعد فترة طويلة من سيطرة مسلسلات الأكشن والغموض والجريمة على الدراما التليفزيونية لعدة أعوام، كان مسلسل “ليالي أوجيني” بمثابة طائر هارب يُحلِّق وحده، باحثًا عن أفراد يشبهونه، فالمسلسل يحكي عن بطلة مهزوزة لا تدَّعي الكمال، وقعت في حب رجل متزوج وهي تبحث عن ابنتها المفقودة، وتعتقد أنها قتلت زوجها عن طريق الخطأ، وتصبح رحلتها كأنها كشاف يلقي الضوء على حياة الآخرين الذين تتماس معهم. ميزة المسلسل أنه أفرد مساحات هائلة بداخله لعرض كل المشاعر الداخلية لأبطاله، وقلل التركيز على الأحداث، فكانت كل شخصية بمثابة كتاب مفتوح تدعو المشاهد للتأمل وإعادة التفكير في الحياة.
2- الرومانسية الغائبة
في ظل إيقاع الحياة السريع، قليلة هي المسلسلات المصرية التي باتت تتناول قصص الحب والرومانسية بشكل يخلو من المبالغة أو الزيف، فعرض المسلسل أكثر من 8 علاقات للحب بين أبطاله “كاريمان، فريد، عايدة، إسماعيل، جليلة، أمين، صوفيا، عزيز، نبيلة، نعمات، صدقي”، كانت متشابكة بخيوط حريرية رفيعة جدًا، دون الإخلال ولو لحظة في عرض تفاصيل أي علاقة، فجعل المشاهد يعيش بعضًا من لحظات الحب الصادق والحقيقي وهو يتعاطف مع الأبطال، ويفكر بالنيابة عنهم ويدخل في غلالة رومانسية رقيقة مليئة بالدفء والحنين، يتمنى لو أنها لا تنتهي أبدًا من شدة جمالها.
3- موسيقى هشام نزيه
لم تكن فقط أغنية المقدمة “من حبي فيك” لنسمة محجوب من أسباب جمال المسلسل الفني، بل كانت الموسيقى التصويرية التي أبدعها هشام نزيه، موسيقى تشبه تلك الألحان التي كان يبدعها ملحنو فترة الخمسينيات والستينيات في أفلام الأبيض والأسود، وعلى رأسهم الموسيقي “أندريا رايدر” صاحب روائع “دعاء الكروان” و”نهر الحب”، فموسيقى المسلسل تتكلم بما لا ينطق به الممثلون، وتنقل للمُشاهد بالضبط انفعالاتهم وأحاسيسهم الداخلية المرتبكة والمتصارعة، مع الحفاظ على طابع المسلسل الهادئ.
جدير بالذكر أن الملحن هشام نزيه قد اختار لكل قطعة موسيقية صنعها اسمًا يعبر به حالة أبطاله، على قناته على اليوتيوب، فهناك قطعة موسيقية بعنوان “ما تسكت عنه”، وأخرى “دون إشعار مسبق”، وثالثة بعنوان “كان يومًا عاديًا”.
4- اللوحات الفنية التشكيلية المبهرة
هو الوصف الأمثل لكل مشهد من مشاهد المسلسل، التي بدت وكأنها مرسومة بيد فنان تشكيلي خرج من العصر الفيكتوري وصنع المسلسل ثم هرب. فكادرات المسلسل لم تكتفِ بإظهار وجوه الممثلين أو انفعالاتهم أو حتى الأحاديث المتبادلة بينهم، بل كانت تشمل أدق التفاصيل، سواء في الديكورات، الإضاءة، الملابس، حتى الأكسسوارات والحُلي التي تزينوا بها، فكل مشهد هو وحدة منفصلة لا بد أن يتضمن الخلفية المناسبة -سواء كان داخليًا أو خارجيًا- التي تعبر عن حالة أبطاله، أما أجمل المشاهد فمقهى “صوفيا” حيث برع مهندس الديكور يحيى علام في نقل أجواء فترة الأربعينيات، وامتزاج المصريين بالأجانب بهدوء وسلام.
5– رسائل خفية لا تتوقف
كانت كل حلقة بمثابة ساعي بريد للمُشاهد، برسالة خفية عن معنى من معاني الحياة وقيمها التي لم نعد ننتبه إليها في وسط الزحام، فكان هناك رسالة بضرورة تقبل القدر والامتثال له، وأخرى عن أن الفقد قد يكون بداية جديدة وليس نهاية كما نعتقد، وثالثة عن أهمية الأمان في الحب وإلا يتحول إلى نوع من الاستعباد لشريك الحياة، وعن الهزيمة التي تصيب الإنسان في وسط الحياة، وعليه عدم الاستسلام لها، عن العلاقات المسيئة التي تستنفد طاقة الإنسان ويخرج منها جسدًا بلا روح.. وغيرها من الرسائل الضمنية التي لم تتوقف لحظة حتى نهاية المسلسل.
أما أكثر تلك الرسائل تأثيرًا فكانت عندما ظهرت حيرة “صدقي بك ” في الزواج من “نعمات”، وكانت كلمات “فريد” بضرورة أن يتبع قلبه لأن القلب الذي لا يعرف السعادة لن يُسعِد أبدًا من حوله، وكأنها رسالة للمشاهد بأن اتبع قلبك وكفى.
6- “جليلة” الفاتنة الدافئة
هي الفتاة الصعيدية التي تتبع حلمها في الغناء مهما كانت الصعوبات، تقدم يد العون لمن حولها بلا حساب أو مقدمات، وتثير الابتسام في نفوس من حولها، محاولة التخفيف من آلام قلوبهم، وهي الحبيبة ذات القلب الدافئ، وهي الشخصية التي أضفت على المسلسل نوعًا من الحيوية والحركة كانتا تختفيان بغيابها، وقدمتها أسماء أبو اليزيد بأداء يمكن وصفه بالسهل الممتنع.
في النهاية.. “ليالي أوجيني” من المسلسلات التي تسكن الروح مباشرة بلا أي بادرة استئذان، يثير في النفس نوستالجيا بأجوائه الهادئة البسيطة، ومشاعر تقبل الآخر والرضا بالقَدَر والإيمان بالحب التي كانت سائدة فيه، والتي نحلم بأن تعود ولو لبرهة من الزمن.