يقدم أبو بكر شوقي فيلمًا غريبًا على السينما المصرية، مستعينًا بأبطال حقيقيين يمثلون معاناتهم، بعدما عاش حكايات المجذومين داخل مستعمرة الجذام منذ نحو عشر سنوات، في فيلمه التسجيلي القصير وأحد مشروعات تخرجه من معهد السينما “المستعمرة”، ليقرر أن ينطلق إلى فيلم درامي عن حياة أحد المصابين، ليقع اختياره على “راضي جمال” بطل فيلم “يوم الدين”، ولتكن حكايته عن البحث في المطلق والبحث عن الذات على وجه الخصوص، وهي الفكرة التي تغري كل مبدع للخوض فيها.
يحول شوقي أحداث فيلمه التسجيلي القصير إلى رحلة أطول، بتشابك بعض الأحداث والتفاصيل البسيطة، ونوازع الشخصيات التي استلهَم منها أفكاره، مع اختلاف النوع والدراما بين الفيلمين، إلا أن فيلم “المستعمرة” كان نقطة البداية في حياة شوقي، ليخرج لنا فيلم “يوم الدين”، الذي لاقى احتفاءً كبيرًا منذ بداية عرضه، ودخوله المسابقة الرسمية لمهرجان “كان” الـ٧١، كأول فيلم مصري يشارك في المسابقة الرسمية منذ عام ٢٠١٢ بدخول فيلم “بعد الموقعة” ليسري نصر الله، بفارق أن هذا هو العمل الأول لمخرجه.
يقدم الفيلم رحلة “بيشاي”، وهو مريض متعافٍ من الإصابة بالجذام، والذي يؤديه راضي جمال، قرر البحث عن عائلته بعدما تُرِكَ وحيدًا على بوابة مستعمرة الجذام في طفولته، ويتطفل على رحلته الطفل اليتيم النوبي الشهير بـ”أوباما”، وأدى دوره الطفل “أحمد عبد الحفيظ”. راضي جمال هو بالفعل مريض متعافٍ من الجذام، والطفل أحمد اكتشفه أبو بكر شوقي ليمثل لأول مرة من خلال فيلم “يوم الدين”.
حسبه أن يُرى مرة واحدة ولكنه لا يُنسى أبدًا.. هذا ما قاله نجيب محفوظ عن “زيطة” أحد مهمشيه في رواية “زقاق المدق”، والتي تنطبق مع شخصية “راضي جمال”، حيث وقع اختيار “شوقي” عليه لتأدية دور المتعافي من الجذام، ليصبح أيقونة الفيلم باندماج المشاهد التام مع الفعل الصادر من الشخصية، وإحساسه بدوافعها واضطراباتها، دون دفعه للتصديق بالاستعانة بأداءات احترافية.
***
قدم أبو بكر في فيلمه نماذج من حياة المهمشين والمنبوذين في مصر، ويركز بالأخص على نموذج “بيشاي”، الشخصية الرئيسية في الفيلم، ولكنه يدمج آخرين من المهمشين معه، كل حكايات فيلمه عن أناس متروكين، منسيين في محيط من القمامة والأطلال المهدَمة، كالطفل اليتيم، والشحاذون النبلاء الذين يتعرف “بيشاي” عليهم خلال رحلته، ومجموعة المرضى المحتمين بالمستعمرة التي اكتست أبوابها بالشجر لقلة استخدامها، فالموجودون بالداخل يبقون بالداخل إلى الأبد.
ينتمي فيلم “يوم الدين” لنوع أفلام رحلات الطريق، نجد أنفسنا نتابع رحلة “بيشاي” في البحث عن أهله، وتعوقه بعض العقبات كموت “حربي الحمار” وسيلة انتقاله الأساسية، وإصابة الطفل “أوباما”، وسرقة مستلزماته الأساسية. تلك الرحلة التي تجعلنا نتعاطف مع “بيشاي” طوال طريقه للوصول إلى بيت عائلته، وهنا يهتم شوقي بالبنية الأساسية في السرد، وهي شخصياته وتصرفاتهم، وينحي المتغيرات التي لا تخدم الحكاية في شيء ذي قيمة كبيرة، كطرق الانتقال والديكور والصوت، وهو المخطط الذي وضعه “فلاديمير بروب” في مورفولوجيا القصة المعني ببنية القصة والشكل السردي، فمثلاً نجده تخلى عن الحمار مبكرًا كي يربك المشاهد ويجعله يتخيل أن بطله سيتراجع عن قراره، إلا أننا نصطدم بقوة وإصرار “بيشاي” في تحقيق مسعاه، متخذًا وسيلة انتقال أخرى تجعله يحتك بالآخرين الذين ينبذونه، لنرى معاناته عن قرب، بعد خروجه من المستعمرة.
لكن اهتمام شوقي بشخصياته كان زائدًا عن الحاجة في بعض الأحيان، على سبيل المثال، نجد أحد الشحاذين، وهو الممثل “شهاب إبراهيم” يقوم بدور شحاذ قصير القامة، شحاذ مثقف يعرف أكثر من أقرانه الذين يبدون كحكماء راشدين، يشرحون خلاصة تجربتهم بمعانٍ بليغة، فنجد الشحاذ المثقف قصير القامة وهو يقول بلغة مباشرة جدًا لم يكن على أبو بكر شوقي زجَّها في الحوار “إحنا منبوذين.. لكن يوم الدين هنبقى سواسية”.
لقد أسس شوقي منذ بداية الفيلم على مفهوم النبذ كممارسة اجتماعية تُمارَس ضد مرضى الجذام أو الأيتام، ثم نقلنا إلى الشحاذين وأصحاب العاهات الجسدية، فجاءت الجملة مبالغًا فيها، وكأنه يريد أن يشرح معنى فيلمه، كما سبق وقال إن معنى الفيلم سيصبح مفهومًا لمن يشاهده، إلا أن تأسيسه للمعنى منذ البداية كان كافيًا لأن يفهم المشاهد كل أفكاره.
لم ينتصر شوقي في فيلمه للمنبوذين فقط، بل انتصر للإنسان مهما كانت التصورات حوله خاطئة، فنجد “أم إيريني” زوجة “بيشاي” التي ماتت، وكان موتها السبب الرئيسي في قراراه لبدء الرحلة، تأتي وتمد يدها إليه وكأنها تطلب منه المغفرة عن نسيان ابنتها وتركها في المستعمرة دون اهتمام، ليؤكد لنا بنهاية فيلمه أن لا أحد من شخصياته شرير بالفطرة، فحتى الأب الذي تصورناه قاسي القلب في بداية فيلمه كونه ترك ابنه وحيدًا في الليل على باب غريب (المستعمرة) لكي يتخلص من مسؤولية مرضه، نكتشف أن عقله القاصر كان يتخيل أن الحياة في المستعمرة ستسعد ابنه، حتى لا يشعر بغرابته في العالم الآخر (عالمنا)، ولم يكن ساعيًا للتخفيف عن نفسه، بل ظل يحمل هذا الوجع في قلبه.