للصرخة فرح لا يقاوم

361

أعرف أن العنوان قد يثير تساؤلاتكم حول معنى فرح الصرخة الذي لا يقاوم، أعزائي الأحباء أقصد بـ”الصرخة” كتاب رضوى عاشور الجديد الصادر مؤخرًا عن دار الشروق، استقبالي للكتاب يشبه حين يخبرني أحدهم أن جدي الحبيب المتوفى منذ سنوات أرسل إلينا رسالة من السماء، هذا الكتاب هدية رضوى عاشور لي من السماء بعد أن تُوُفيت في نهايات العام الماضي. وهو آخر ما كتبته ولم تستكمله، حيث إن الكتاب يعد كمخطوطة لم تستكمل في صورتها النهائية ونشرت كما كتبتها الكاتبة، وهو الجزء الثاني من كتابها البديع “أثقل من رضوى”.

 

منذ زمن لا أتذكره قررت شراء كل كتب رضوى عاشور وقرأتها، وقعت في غرام “الطنطورية”، وأحببت “ثلاثية غرناطة”، كنت أقضي الساعات مستكينة بين صفحات كتبها، لأنسى العالم والأصوات الصاخبة في ذهني.

 

الكتاب الأخير بعد أن اشتريته ظللت أمنّي نفسي بلحظات هادئه حين تنام رضيعتي الجميلة لأستغرق فيه، ما إن بدأته حتى استسلمت له تمامًا وجلست أستمتع به.

 

تكتب رضوى عاشور عن تجربتها مع المرض وتقول عنه “أسوأ ما في المرض أنه يربك ثقتك بنفسك فيتسرب إليك الخوف من أنك لا تصلح ولن تستطيع”.

يا الله! هل تشعرين أستاذتي بعدم الثقة فيما تكتبين وتسألين تميم الابن عن رأيه فيما تنجزينه من صفحات في كتابك.

تكتب رغم المرض وما بين إجراء جراحتين خطيرتين، تكتب بقلب آمن وقوة نضال لا تعبر إلا عنها، فتقول “إن الكتابة كانت اكتملت داخلي ولم يبق سوى تدوينها، أو هاجس غير موعى به أنني لا أملك تبديد الوقت”.

 

تملكين أستاذتي نبوءة الأنبياءـ فها أنتِ تتوقفين عن الكتابة في سبتمبر 2014 لتوافيك المنية بعد ثلاثة أشهر لتصمتي إلى الأبد، لكني أوقن أن الكُتّاب والشعراء لا يصمتون، بل تظل كلماتهم ترن في وعينا وتشكله، تعبر عن تاريخنا وتتشابك مع ذكرياتنا لتشكلنا نحن. وها أنت بعد مرور بضعة أشهر من وفاتك تصدرين كتابك الذي يمتعني ويغذي روحي، فأشعر بالسعادة التي تصل لرضيعتي أيضًا. ستكبر “سلمى” وتدخل مكتبتنا لترى كتبك على الأرفف، سأنصحها أن تبدأ “بالطنطورية” لتتوالى لحظاتها مع كتبك كلها.

 

تكتبين بنعومة خالصة عن لحظات غيبوبتك، فتقولين “لا غمامة في لحظة الغياب، لا بحر أو سماء أو وعي أبدية أو انقطاع. لم أشعر بأنني وحيدة، لأنني في الغيبوبة الكاملة لا أعي وجود الآخرين أو موقعي من الدنيا ومنهم. وحده البياض كان حاضرًا، ومربع زجاجي كبير كأنه مائدة”. أتماهى مع ما تكتبين أتخيلني مثلك، كتابتك سهلة ممتنعة، لوهلة أشعر أن كلماتك المنسابة بسهولة ستصبح سهلة حين كتابتها، لكن أبدًا، فبصمة كتابتك لن تتكررـ

 

أراني في أماكنك، حين تكتبين عن بيت “مريد” الزوج في عمان أكاد أرى أزهار الجيرانيوم من شرفتك وشجرة الياسمين البلدي والعراقي وأشم روائحها.

أحب جدتك كما كتبتِ عنها، أتخيلها وهي تتكحل في سبت النور وتبتهج لسقوط المطر في الغطاس، وفي ليلة شم النسيم تضع ضمة من البصل الأخضر تحت وسادتها وتنام. ثم تبكّر صباحًا لتطلب من أحد أحفادها أن يلقي بالبصل الأخضر في النيل.

 

حين وصلت إلى الصفحات الأخيرة في الكتاب ووجدتك تكتبين عن لحظات المرض الأخير كاد قلبي أن يتوقف ونسيت أنك رحلتِ منذ بضعة أشهر، توجعت حين قرأت كلمات طبيبك “لا يوجد علاج تجريبي مُبشّر يمكن أن ننصح به، بمعنى آخر للأسف يا رضوى لا يوجد علاج يمكن أن يشفي هذا الارتجاع السرطاني الجديد”.

 

بعد الوجع تنفست بارتياح بمجرد أن أنهيت الكتاب وصغيرتي ما زالت نائمة وقرأت لك الفاتحة وقلت لنفسي إن الكُتّاب لا يرحلون، بل تظل كلماتهم تُشكّل جزءًا من وعينا وذاكرتنا وشخصياتنا.

 

 

 

 

المقالة السابقةإزاي توفري في مصاريف فرحك؟
المقالة القادمةعشان محدش يقول حاجة

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا