لايارونا وأسطورة المرأة الباكية

808

قُدرة المرأة على الإبداع هي أعظم مُمتلكاتها، ذلك الكنز الذي لا ينضب أبدًا، منه تتغذى وتتوهج، فتستطيع أن تجزل العطاء على الآخرين باعتبارها كائنًا واهبًا للحياة والمعرفة.

 

وعلى عكس ما يتصوره البعض، فالإبداع قد يتعطل لكنه أبدًا لا يجِف ولا يُفقَد، هو دومًا هناك يُبارز العقبات التي تواجهه من أجل الوصول إلينا، والشيء الوحيد الذي قد يُعطله فعلاً هو أن نُسممه بسلبيتنا، أو نسمح للآخرين بوضع العراقيل في طريقه.

 

ولمعرفة كيف نُحافظ على حياتنا الإبداعية علينا أولاً استحضار قصة لايارونا، أو كما يعرفها البعض بـ”أسطورة المرأة الباكية”، وهي حكاية قديمة تتداولها الشعوب الناطقة بالإسبانية بأكثر من نُسخة، عن نهر الحياة الذي أصبح نهر الموت.

 

النسخة القديمة تُفيد بأنه كان هناك ثري إسباني اسمه “هيدلج”، التقى بـ“لايارونا”الجميلة الفقيرة، أغواها بحُبه لتحمل منه بتوأم. ثم ذات ليلة أخبرها أنه سيترُكها من أجل الزواج بامرأة غنية وسيأخذ معه الطفلين دون عودة.

 

جُن جنون “لايارونا” وانهارت كل دفاعاتها، ثم فجأة انتزعت طفليها من “هيدلج” مُنعدم القلب، وجَرَت بهما نحو النهر، ألقت بهما في مجرى الماء، وبعد أن غرق الطفلان ظلت تبكي حتى ماتت. وحين صعدت روحها للسماء أخبرها حارس الجنة أنها لن تستطيع الدخول إلا إذا عادت للنهر واستردت روحي طفليها. لتظل “لايارونا” حتى اليوم تكنس بشعرها ضفتي النهر، وتغرس أصابعها بالقاع مُحاولِةً إيجاد طفليها.

 

أما النُسخة الحديثة فتُفيد بأن “لايارونا” أحبت “هيدلج” الذي كان يمتلك مصنعًا يتخلص من مُخلفاته بالنهر، وحين شربت “لايارونا” من النهر أثناء حملها وُلِد طفلاها ضريرين بأصابع مُلتصقة. فقرر “هيدلج” تركها هي والطفلين، ما ترتب عليه أن ألقت “لايارونا” طفليها بالنهر لترحمهما من قسوة الحياة، ثم ماتت من فرط الحُزن، وحين صعدت للسماء مُنعت من دخول الجنة دون روحي طفليها -تمامًا-كالقصة القديمة.

 

دعونا في البداية نفَك رموز الحكاية

– النهر: يرمُز للعطاء الأنثوي المُتدفق، وصفاؤه يُشير للقُدرة الإبداعية للمرأة في حالتها الأصلية.

– هيدلج الثري الإسباني: يرمُز لـما يُعرف بالـ“الميل العدواني”، والمقصود به قوة النَفس التي تدفعنا للكفاح والتصدي للعالم والقُدرة على التواصل معه، من المُفترض أن تكون تلك القوة سندًا ومُساعدًا لصاحبتها، ولكن حين تأتي القوة سلبية تصبح هدَّامة، كما جاء في القصة.

ويرى المُحللون النفسيون أن الميل العدواني يأتي عادةً في شكل ذكوري، رُبما بسبب الارتباط بين خوف النساء من الإعلان عن أفكارهن الجريئة ومُمارسة إبداعهن، ووجود ذكور مؤذيين في حيواتهن.

– النهر المُلوَّث: يرمُز لاحتضار الحياة الإبداعية، وتسميم الجانب القادر على الخلق بالنَفس.

– الأطفال: هم الأفكار الوليدة، التي تدُل على قُدرة المرأة على خلق الأشياء من العَدَم، وبتشوههم والتخلص منهم يعني أن صاحبتهم لا تؤمن بقُدرتها على تأمين الحياة لهم، مُشككةً بشرعيتهم.

 

لنصبح أمام أسطورة هي في الأساس عن الجانب الإبداعي للمرأة وكيف يتم تعكيره، والتشكيك فيه حتى يتسمم، فتفقد المرأة الإيمان بنفسها، وتتوقف عن الخلق.

 

وهذا يجعلنا نطرح سؤالين مُهمين:

– كيف يتلوث نهر إبداع المرأة الخلاقة؟

– كيف تسترد المرأة النهر صافيًا؟

لإجابة السؤال الأول علينا إدراك أن عملية الإبداع تمُر بخمس مراحل: “الإلهام، التركيز، التنظيم، التنفيذ، والمُساندة”، لذا بفَقد أي مرحلة منهم تُصاب عملية الخَلق بالعرقلة.

 

وفي الحقيقة أسباب عرقلة أو إلهاء المرأة عن الإبداع كثيرة أهمها:

1- التشَتُّت، إذ أحيانًا تتفرّق روح المرأة هنا وهناك، بسبب كثرة المسؤوليات التي لديها، ما يجعل أفكارها تتبعثر وتتعثر، فتُقرر إما أن تُنجز جُزءًا صغيرًا من كل شيء، ما يجعل كل مشاريعها مُعلَّقةً بلا انتهاء، فيتملكها شعور بالفشل والخيبة. أو أن تنصرف عن تلك الأفكار لشيء آخر أبسط، والذي قد يكون هامًا بالفِعل لكنه لا يُغَذِّي الروح، فتظل المرأة حتى بعد إنجازها له شاعرةً بالنُقصان.

 

2- الأفكار المسمومة التي يبُثها لها الآخرون، من يُخبرونها أنها ليست جيدة بما يكفي، أو أن ما تقوم به لا يهم أحد، أو أنه سهل جدًا يستطيع أي شخص القيام به أو صعب جدًا فلا تقوى عليه.

 

3- الـ“هاربي” وهو مرض يعمل على تشويه موهبة المرأة والتقليل من جهدها من خلال الحوار الداخلي الدائر برأس المرأة نفسها مع الأصوات السلبية التي تسكُنها، وتنتقص منها ساخرةً مما تُريد فِعله بالحياة.

 

4- الأعذار شكل آخر من ملوثات النهر، وتتمثل في الحجج التي تُلقيها المرأة على مسامعها، كأن تُخبر نفسها أن حالتها المزاجية لا تسمح لها بالإبداع الآن، أو أن وقتها ضيق ولا يُمكن تقسيمه بين المسؤوليات الحياتية وما يُغذي الروح، وأنها ستتفرغ لذلك بعد الانتهاء مما تفعل… إلخ.

 

لتظل المرأة تعِد نفسها وعودًا كاذبةً، مبنية على ارتباطات شرطية قد لا تحدث أبدًا، ظنًا منها أنها بذلك تؤجل الإبداع، لا تقتله، لكنها في الحقيقة تُغذي روحها بما لا يُسمن ولا يُغني عن جوع، ويؤدي في النهاية لتلوث نهر الإبداع داخلها.

 

ولإجابة السؤال الثاني، وكيفية إعادة تنقية النهر، عملاً بنظرية “الحياة/ الموت/ الحياة”، سيكون على المرأة اتّباع عدة خطوات، أهمها:

1- تغذية نفسها بالثقة، والإيمان بما تفعل، وقُدرتها على فِعله، كذلك عليها أن تتعلم كيف تتقبل المديح، وأن تُصدق أنها تستحقه بالفِعل.

2- القُدرة على التعامل مع كل المُعطيات التي لديها، والأفكار التي تتدفق داخلها، فتستجيب لها، تتفاعل معها، ثم تقوم بتجميعها، والتعبير عنها بشكل فريد يعكس شعورها ورؤيتها.

3- إطلاق العنان لقُدراتها التخيلية وقوتها الداخلية، دون أن تسمح لأحد -ولا حتى نفسها- أن يفرض عليها أي رقابة تُكبِّلُها، أو يُعطلها عما تسعى إليه. كذلك عليها ألا تَدَع العُقد المُجتمعية أو الشخصية تقف بطريقها.

4- البدء بأي طريقة وأي زمان ومكان، فلا عدو للإبداع أكثر من التردد أو الخوف، فما أسوأ ما قد يحدث؟ الفشل؟ افشلي! تلك هي الطريقة الوحيدة التي ستتخلصين بها من خوفك، بعدها ابدئي من جديد.

5- الموازنة بين الحياة العملية والحياة الإبداعية، من خلال عدم إهدار الوقت، هكذا تتمكن المرأة من جَعل الإبداع أحد أولوياتها وصاحب جزء من وقتها الأساسي، فيصبح بإمكانها ممارسة ما تُحبه كل يوم، دون أن تضطر لفعل ذلك فقط باللحظات المسروقة، أو وقت الفراغ.

6- توفير الغذاء للروح، ففي حين هناك طبيب لكل علة، إلا أن الروح إن لم نتصد نحن للدفاع عنها ونمدها بما يلزمها للحياة، لن يهتم بفِعل ذلك أي شخص آخر.

 

ولعل آخر ما عليكن معرفته، هو أن الإبداع ليس عليه بالضرورة أن يتمثل في الأفكار أو الأفعال، بقدر ما يتجلى بأبسط الأشياء، فكل ما يلزمه هو امتلاك الشغف الجارف بشيٍء ما للدرجة التي تجعلنا لا نقوى إلا على الامتثال لهذا النور الساري داخلنا.. فنُبدع.

**

المصدر: كتاب “نساء يركضن مع الذئاب” لكلاريسا بنكولا.

المقالة السابقةالخروج من النفق المظلم
المقالة القادمةهل أنت مدمن للحزن؟
ياسمين عادل
امرأة ثلاثينية متقلبة المزاج، أعشق الرقص على السطور كتابةً، أُحب الفن بمختلف أنواعه وأعيش عليه. والآن كبرت وصار عليّ أن ألعب في الحياة عشرات الأدوار طوال الوقت، لأستيقظ كل صباح أُعافر حتى أستطيع أن أُحاكي بهلوانات السيرك فأرمي الكُرات المُلونة بالهواء ثم ألتقطها كلها في آنٍ واحد.

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا