ترنّ الآن أغنية “أهواك” لعبد الحليم. تتسع ابتسامتي، لأن التوقيت لم يكن أفضل من ذلك، فتوًا أغلقت صورة لولد وسيم جدًا، ربما لا يعرف هو أنه وسيم. ابتسامته متسعة ونابعة من القلب، أسنانه نضيدة على عكس ما أحب من أسنان، فمعيار الابتسامة لديّ لولد لديه سِن أصغر من المعتاد، ثم اكتشفت بعدها أن نفس الموضوع متكرر لدى أمي وأخي الصغير.
أقول أغلقت صورته لأنها تمثل لي تشتيتًا عن العمل، الذي أخيرًا أجلس لتأديته. يبدو وسيمًا بشعره الناعم المبعثر حول رأسه، ونظارته الكبيرة ذات النصف إطار. يحمل في القلب مكانة كُبرى، لذلك ربما هو أكثر وسامة من شخص عابر لم أر إلا صورته. لهذا تحديدًا، ولتعلّقي بمواقفه ومساندته لي وللعديد من الأصدقاء، يبدو حُلوًا مثل زهور “لا تنسني” الصغيرة الزرقاء. تبدو المقارنة بينه وبين مَن تحضرهم لي أمي من “عرسان” غريبة جدًا وعبثية، لأني من المفروض أن أجلس مع شخص لا أعرفه، أسمع عنه ما يرويه هو عن نفسه، وأحكي له عن نفسي بكل أريحية رغم أنها أول مرة أراه، ثم أقرر هل سنكمل مع بعضنا لفترة الخطوبة ثم الزواج أم لا! يبدو هذا غريبًا جدًا!
في فيلم “موستانج” التركي، نرى خمس فتيات صغيرات في السن جدًا، لا أعتقد أن كبراهن بلغت العشرين. نراهنّ وقد فُرضت عليهنّ كل القيود الممكنة، فلا إنترنت أو كمبيوتر أصلاً، ولا تليفون أو فرشاة وضع أحمر الخدود أو طلاء الأظافر. لاحقًا، وُضعت القضبان على النوافذ، وعُلّيت أسوار المنزل. لا أعتقد أن الفيلم يبالغ، فهو وبالرغم من أنه يصوّر حياة الفتيات المنتميات لأصل مسلم في الريف التركي، فالحكاية منتشرة في كل مكان تقريبًا، خصوصًا في دول العالم الثالث. أعرف طبيبًا نفسيًا أتابع صفحته قال شيئًا مماثلاً عن مُتابِعة أتت طالبة المشورة وهي على حافة الانهيار، لكن قصتها كانت متطورة قليلاً عن ذلك، كما حدث في الفيلم تمامًا.
في “موستانج”، بعدما فُرضت كل القيود على الفتيات، خرجت الجدّة بهنّ إلى ساحة القرية لتناول عصير الليمون، الأمر المستغرب جدًا عليهنّ لأنهنّ لم يخرجن من قبل معها بعد فرض الحراسة المشدّدة، حتى المدرسة منعتهنّ من ارتيادها. فهمن بعدها، عندما أمرتهن أن يذهبن للنافورة ويعدن ثانية، أنها تحاول إظهارهن للعالم. نتيجة ذلك، أتت في اليوم التالي مباشرة مجموعة من النساء يطلبن يد كُبرى البنات، لشاب لم تره من قبل. حدثت تغيرات، لكن الجدّة قالت “أرى أن الفتاة والفتى معجبان ببعضهما”، على الرغم من أن الفتيين لم ينظرا لبعضهما سوى لثانيتين، لكن الجدّة أصرّت على إتمام الخطبة حالاً، وأن يحضر الرجال ليتحدثوا في أمور العُرس، لدرجة أن واحدة من الآتيات للخِطبة قالت مندهشة “بهذه السرعة؟!”.
وهكذا.. حدث أن زوّجتهن الجدة واحدة وراء الأخرى، دون السؤال عن رأيهن، دون مناقشة معهن. عندما اقترب موعد زفاف الكبرى، أخرجت لهن كتابًا عن “أسرار الجنس” ووضعته في متناول يديها. دُهشتُ أنا جدًا؛ ألهذه الدرجة لم يكنّ يعرفن شيئًا عن الزواج؟! لماذا إذًا سيتزوجن؟!
طُرحت إشكالية الحُب في الفيلم، لكن سريعًا ولم يتعمقوا فيها. في رأيي، لماذا يمكن أن يتزوج الإنسان بلا حُب؟ هل هو الإجبار؟ الخوف من العنوسة؟ في الفيلم كانت الفتيات صغيرات جدًا، كُنّ في المدرسة بحق الله! لماذا وافقن على الزواج؟ هل للهروب من بيت جدتهن القاسي الذي يفتقر للحريات؟ هل لطموحهن في حياة جديدة غريبة؟ هل كُنّ -وهو الأكثر أهمية بالنسبة لي- بلا حيلة؟ يبدو ألا أحد عرّفهن بحقوقهن، وأنهن يمكن أن يقلن “لا”. لكن حتى هذه، لو قلنها في وجه الجدّة والعمّ -فقد توفي والداهن منذ زمن- فلن ينصت لهن أحد. لكن على الأقل يقلنها!
رثيت لحالهنّ كثيرًا. رثيت لعدم قدرتهن عن الشكوى أو الاعتراض أو المطالبة بالحقوق. ربما كُنّ صغيرات نعم، لكني سمعت قصة عن “زوريل إدوولي”، مراهقة في الثالثة عشرة تجوب قرى جنوب إفريقيا الفقيرة لتوعية السيدات والفتيات بحقهن في التعليم*.. أليست هذه صغيرة أيضًا؟ أم لاختلاف الظروف؟
لكن تأتي نهاية الفيلم مريحة نوعًا، تقاوم بعض الفتيات ويقلن لا. ينجحن في فرض شخصيتهن ولو بالطرق الصعبة، ويقررن تحديد مصيرهن بأنفسهن. أعجبتني بشدة هذه الجزئية، لأنها رغم اختلافها عن الحياة الواقعية -ليست كل الفتيات محظوظة- فقد جاءت مرضية لمن يشاهد الفيلم ويتفاعل مع الفتيات جدًا ويحاول مساعدتهن. لم يكن الفيلم مسببًا للكآبة، لم تأتِ النهاية لتقول إنه لا أمل، وإن على الفتيات القبول بالواقع التعس، بل أتاحت لهنّ جزءًا من النور، يرينه ثم يقررن هل يتبعنه أم لا.
الفيلم بسيط بالفعل، لكن التعبيرات على وجوه الفتيات كانت موحية جدًا. لم يقلن الكثير، لكن فعلن وعبّرن عن مشاعرهن كثيرًا، على الأقل بعضهن لبعض. في لقطة ما، في بداية فرض حظر كل شيء عليهنّ، كنّ مستلقيات على الأرض يلعبن ألعابًا خيالية جدًا وطفولية، تؤكد انتمائهن لعالم الأطفال أكثر. احتوين بعضهن بعضًا، لعبن معًا وتحدثن معًا. لكن مع تطور الفيلم نرى هذه العلاقة وقد شابتها بعض الغرابة، الأمر الذي لم يدركنه هن أيضًا. تعقدت الأمور، صرن يصرخن في وجه بعضهن، لا يشاركن صغراهن اللعب بالكرة، لا ينصتن إليها أصلاً عندما تريد هي أن تفسد زيجة ثالثتهن.
أتى الفيلم دافئًا جدًا وحميميًا وقريبًا من النفس، عدا الأجزاء التي تفرض فيها الجدة والعم القهر على البنات. لكن البنات قاومن، ليس في كل وقت طبعًا، لكنهن فعلن. أحب أنا المقاومة عندما تأتي من فتاة وُضِعت كل الصعاب والنكد في طريقها، لكنها فرضت صوتها وقالت لا.